وجيه قانصو*
مقالة الصديق د. حسن جابر، عن نهاية المثقف(**)، تُحرِّكُ فيك الدافع لتدلو بدَلوك، إلا أنها تَضَعُكَ بين مُتقابِلَيْن: أن تُظهر وجه الحقيقة الآخر الذي قُصِد حَجبُهُ، وأن توضِّح أنَّ مؤدى مقالته لا يتطابق مع قناعات صاحب المقالة. ليكن ما سأكتبه إذاً، قراءة لنصٍ لم يكتُبْهُ، وتفسيراً لمعنى لم يَقصدهُ.
بداية، أشير إلى أنَّ موجة الحديث عن النهايات في الغرب، لم تُعبِّر عن «سلسلة إخفاقات»، بل عبَّرت عن تحوُّلٍ في أُطُرِ التفكير (paradigm shift) ونُظُمِ العلاقات، لتعلن بأنَّ الأطرَ والمواقع والأدوار السابقة أصبحت غير ذات جدوى وفاقدة للفاعلية، لأنها ببساطة استنفدت كل ما عندها وخرجت من تاريخ الحياة والحدث. بالتالي فإن ما انتهى، ليس المثقف بالتحديد أو مقولة «الإنسان» أو «الكاتب» أو «التاريخ» أو غيرها، بل انتهى الوعاء الذي يهب جميع هذه المقولات معناها ودلالتها وموقعها، ويحدد دورها وأداءها.
جاءت النهايات، مع نسبية أينشتاين، وكوانتم ماكس بلانك، ومِعوَل نيتشه، ووجودية هيدغر، وتفكيك دريدا، لتقول لنا بنهاية التاريخ الذي تُسَيِّره حِكمَةٌ خفية، ونهاية الكاتب الذي يتحكم بما يكتبه أو يقوله، نتيجة صيرورة ما يقوله أو يكتبه عالمَاً مُستقِلاً، يجدُ فيه القارئ قولاً لم يقصده المؤلف ومعنى لم يقُلهُ في النص أصلاً. ونهاية مقولة الإنسان الذي جعلت منه الحداثة عقلاً كلياً قادراً على تفسير كل شيء والتحكم به، ونَسِيَت قلقه وألمه وحس العبث الذي يعتريه أحياناً، وهكذا.
لذلك، أوافق الصديق جابر على نهاية المثقف من جهة ادعاءاته ونرجسيته الذاتية التي تجعله عاجزاً «عن إدراك الفارق بين المثال المتخيل والواقع»، ومن جهة «مُحرِّضاته الإيديولوجية» التي تُخرجه عن ممارسة المعرفة النزيهة إلى ممارسة تطويع الحقيقة و«جر القرائن والأدلة... إلى حيث يشتهي ويرغب». وهي الممارسة التي أجد أن مقالة الصديق جابر من أوضح نماذجها.
من المؤكد هنا، أن د. جابر لم يقصد من نهاية المثقف، نهاية المعرفة أو بطلان الحاجة إلى ممارستها وتطوير أدوات معرفية تُمكِّن من فهم وتفسير بل والتحكم بما يجري حولنا في العالم. هذا يعني أن دور المثقف، كممارسة للمعرفة، ليست محلاً للجدل، بل لعل الدعوة إلى نهاية المثقف هي مبادرة لكي تستعيد المعرفة فعاليتها وتحريرها، على رغم استحالة ذلك، من التوظيفات السلطوية، والادعاءات النبوئية، ليبقى الخطأ مدار عافيتها وتطورها.
ليست المشكلة، إذاً، في الثقافة كفعل معرفة، بل في موقع المثقف داخل شبكة الحياة السياسية والاجتماعية التي تموضع بداخلها، أي إن المشكلة في المنظومة الثقافية والعلائقية التي يسميها البعض «الإبستمية» والتي تفرض على المثقف تأدية دور مُقدَّر سلفاً لا يملك الخروج عن محدِّداته.
التوهم بقدرة المثقف على الكشف عن سر الأشياء وجوهرها، لم يخلقه المثقف نفسه، بل خلقته المنظومة المعرفية، اللاهثة وراء معدن الحقائق المطلقة، والمدافعة عن ثوابتها ومسلماتها بكل ما أوتيت من أساليب التمجيد والتقديس والترهيب. منظومة تحذر من الجديد، وتتوتر من التفحص الناقد للحقائق، وتأنس بحكمة الأشياء الخفية لتبرر الاستلاب. وبالتالي يقع المثقف، أو كل مُنتِجٍ للأفكار، حبيس الدور الذي تفرضه تلك المنظومة، إما بتأدية دور الحامل للأسرار والحِكَم المتعالية، وإما بممارسة التبجيل للحقائق القائمة، ليعلن نهائيتها أو مطلقيتها وعدمية ما عداها.
وإنصافاً للأمور، أرى أن المثقف يمثل الحلقة الأضعف في أزمتنا الراهنة، بل هو برأيي ضحية من ضحاياها. وإذا أبدى بعض المثقفين شيئاً من الادعاء، فهذا للتعويض عن الشعور بالتهميش وضعف الإمكانات، ولحفظ شيء من الكرامة والحرية، أمام المشاريع الإيديولوجية الكبرى ذات الإمكانات المادية الهائلة، التي لا تريدك إلا شاهد زور على حتمياتها التاريخية أو سيادتها الإلهية، وأمام القيادات الملهمة التي لا تقبل المثقفين، باعتراف د. جابر، إلا «موظفين لخطبهم وكلماتهم». فإذا كان المثقف مدعياً للحقائق، فالقادة تتلاعب بالحقائق، وإذا اكتفى المثقف بعرض أفكاره المتعالية، فالقائد يفرض إلهاماته على الناس ويجعلها مقياساً للاستقامة والهداية، وإذا أمكن المناداة بنهاية المثقفين بالجملة، فليجرؤ أحد على المناداة بنهاية أيِّ قائد أو زعيم، بل فليجرؤ على مجرد انتقاده.
يحاول د. جابر تمرير صفتين أساسيتين للمثقف الجديد أو الفاعل: أولهما أن يكون صانعاً للحدث، ثانيهما أن يكون مثقفاً عضوياً. وهذا برأيي يُعيد المثقف إلى المكان عينه الذي أُعلِن نهايته فيه.
أن نشترط على المثــــــــــقف أن يكون صانعاً للحدث، وإلا نهايــــــــــــته، فهذا تحميل لدور لا يدّعيه المثقف ولا يُفترض به كذلك. فالحدث لا يصنعه الفرد، مثقفاً كان أو سياسياً، بل تصنعه شبكة معقدة ذات منطق داخلي في تـــــــــــوزيع الأدوار وتكاملها. نعم تكون المعرفة جزءاً من صناعة الحدث، في كونها تقرأ وتنقد وتبرمج وتبتكر وتكشف العيوب قبل الفضائل، وفق عملــــــــــــية تفاعل مع بقية المواقع والأدوار. قد تكون عزلة المثقف عن مجريات حدث ما، تعبيراً احتجاجياً عن مسار هذا الحدث، أو عن رفضه لتأدية دور «الموظف» عـــــــــند السياسي، وهذا بذاته جزء من صناعة أو تهيئة لحدث آخر يؤمن بقدومه. إلا أن الأغلب في عزلة المثقف، أنهــــــــــا لا تكون بقرار منه، بل بفعل إقصاء ومحاصرة وتجاهل من قوى القرار السياسي التي تميل في عـــــــــــالمنا العربي بالخصوص إلى تأبيد مواقـــــــــــعها وأسطرة شخصياتها، وإحاطة نفسها بالتبجيليين، وتحييد كل مؤهل لفضح لعبة السيــــــــــــــاسي ونبذه، وفي طليعتهم الذين يفكرون بحرية.
أما عضوية المثقف، بمعنى الانخراط في مسار قوى تَدَّعي صُنعها للتاريخ أو للحدث، بأن يتبنى مقولاتها ويدافع عنها، فهذا دور إيديولوجي ينقل المثقف من موقع المُنتج للمعرفة إلى المتلاعب بها، أي إلى موقع السياسي. فالمعرفة التي لا تحتل حيزها المستقل عن الضغوط السياسية والإيديولوجية بل والتراثية، تبقى تراوح مكانها، وتصبح أداة لقولبة العقول لا لتنويرها. نعم، لا تعني الاستقلالية الخروج من المجتمع والتعالي عليه، إذ لا معنى لثقافة خارج الحاضر والراهن، بل تعني أن يكون لنشاط المعرفة والتفكير حيزه الخاص وآلياته الذاتية التي تقتضيها شروط المعرفة المنتجة. عضوية المثقف عامة، ومتى خُصَّت صارت أداة سلطة أو غلبة.
لعل أكثر مقاربة لم يُوَفَّق بها د. جابر، هي مفاضلته بين السياسي والمثقف، وخلوصه، وهذا محل شك كبير عندي، إلى أن السياسي الخارج غالباً «من صفوف الفئات المنتجة» يكون «مُزوداً خبرات واسعة»، وأن «تقديراته غالباً ما تكون صحيحة ودقيقة»، وهذا على عكس «المثقف الغارق في تصوراته المجردة».
برأيي، تبدأ المشكلة بين المثقف والسياسي، حين ينافس كل منهما الآخر على موقعه. فحين يدّعي المثقف بأنه الأجدر في القيادة من السياسي فهو واهم، لأن ممارسة المعرفة شيء وممارسة القيادة شيء آخر. وحين يدّعي السياسي أن خبرته العملية وميزاته القيادية تجعله عالماً منافساً لأصحاب الفكر، فهو أيضاً واهم، لأنه يفتقد إلى الأدوات المعرفية الضرورية التي لا توفرها الخبرة السياسية. أوهام المثقف كما أوهام السياسي، مصدرها البيئة المشتركة بينهما، التي تُشَخصِن السُلطة، وتُركِّزها في فرد واحد، الأمر الذي يضخم مواقع السلطة على حساب بقية المواقع والأدوار. وهذا ما جعل التنافس بين المثقف والسياسي يأخذ سمة التنافس على السلطة، التي تغري المثقف أحياناً، بحكم هالتها وإمكاناتها الكبيرة، بالتصدي لها، وتغري القائد دائماً بتأبيدها وتأدية دور المُنتج للأفكار التي يحوّلها، بحكم وسائل الإقناع الجماهيري الهائلة التي يملكها، إلى حقائق بل إلى عقائد ومنهج حياة.
مشكلة السياسي والمثقف هي جزء من معضلة أوسع، سببها تداخل المواقع والأدوار، وغياب النظام العام الذي يجعل من القائد السياسي والمثقف ورجل الدين وغيرهم مُكوِّنات داخلية لا يملك أيٌ منها اختزال الحياة العامة بموقعه أو بشتى أوهام الحق التاريخي أو التفويض الإلهي التي يدّعيها.
بهذا لا يعود السؤال، من يتبع من؟ فإلحاق أيٍّ منهما بالآخر هو إلغاء لكليهما، بل يتحول إلى السؤال عن نظام العلاقة الذي يحفظ فعالية كل منهما، ويرسخ في السلوك العام قابلية أي قرار أو مقولة للنقد والمراجعة. هذا النظام لا يتأسس إلا بمسار تراكمي، مُدَعَّم بثقافة تُخَفِّض من سقف التعاليات وتطلق مدى الإشكال، وبواقع سياسي يُرسِّخُ الوعيَ المشترك بأن الشأن العام أكبر من أن يُختَزَل بقائد.
* استاذ جامعي
(**) مقالة نشرت في جريدة الأخبار ــ ساحة رأي ــ العدد 116