جورج قرم *
ما زال المواطن اللبناني يعيش على أعصابه على وتر التجاذبات المحلية والإقليمية وذلك بسبب هذا النظام النقدي والمالي المنحرف، فهو يظل خائفاً على مدّخراته بالليرة اللبنانية في حال حصول خضّة سياسية أخرى، مع العلم أن لبنان تحمّل إلى الآن سلسلة من الخضّات الكبرى من اغتيال الرئيس الحريري إلى الاغتيالات الأخرى وإلى الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في الصيف الماضي، من دون أن يحصل أي نوع من بوادر اهتزاز الليرة أو صلابة النظام المصرفي. إنما إبقاء المواطن اللبناني في حالة الخوف والقلق من التطورات المالية والنقدية هو جزء أساسي من سياسة سيطرة الفريق الحاكم على عقول الناس ومصيرهم. وأساس هذا الوضع هو إنشاء نظام نقدي منحرف منذ عام 1993 واستخدام أساليب غير سليمة في طريقة إدارة الفريق الحاكم الدين العام، ما أدّى إلى تراكم فوائد بمبلغ 33 مليار دولار على أصل دين لم يتعد ملياري دولار في نهاية عام 1992، وقد زاد عليه تراكم عجز الخزينة بالنفقات العادية والاستثمارية وسلفات الخزينة بواقع 7 مليارات دولار حتى نهاية عام 2004، أي ما مجموعه 9 مليارات دولار كرأسمال الدين الاساسي. هذا مع التأكيد على أن نفقات الإعمار لم تتعد 6 مليارات دولار خلال فترة 1993ــ 2004، فلا يمكن إذن بأي شكل من الأشكال أن يُعزى تعاظم الدين العام إلى النفقات العسكرية والأمنية أو التقديمات الاجتماعية أو الدين الموروث من حرب 1975ــ 1990(كما ذكر في الورقة المقدمة إلى اجتماع باريس 3).
أمام هذه الوقائع الموضوعية، المطلوب هو مجهود كبير من كل القوى السياسة التي تود إخراج البلاد من سيطرة فئة من اللبنانيين المتسلطة على كل مقدرات البلاد منذ 15 سنة للارتقاء إلى طرح نظرة بديلة إلى الاقتصاد اللبناني وطريقة إدارته، وبشكل خاص ضرورة التركيز على استغلال الأمثل للقدرات الإنتاجية اللبنانية الكامنة، من مادية وبشرية، في الميادين والقطاعات الحديثة التي تكوّن دعامة حركة العولمة، والتي لا بد أن نستفيد منها بالشكل المناسب على غرار دول أخرى مشابهة لنا مثل إيرلندا وقبرص ومالطا وسنغافورة والبرتغال، والابتعاد نهائياً عن النظرة السطحية والساذجة للاقتصاد اللبناني كاقتصاد وسيط بين دول متقدمة ودول متخلفة. فهذه النظرة هي المسيطرة على فكر الفريق الإعماري منذ 15 سنة وعلى فئات واسعة من الرأي العام حتى المؤيدة لقوى المعارضة، بينما هذه النظرة هي أساس مرضنا وسوء أدائنا الاقتصادي، وهي التي تبقي لبنان في الدوامة المالية والنقدية والوضع الاجتماعي المزري.
ويتطلب ذلك أيضاً الدخول في إصلاح نقدي شامل من حيث القضاء التدريجي والمبرمج على النظام الحالي المبني على استعمال عملتين معاً (الدولار والليرة في التعاملات الداخلية) وعلى استعمال سندات الخزينة بالليرة لأغراض امتصاص السيولة بالعملة المحلية والسندات بالدولار لتقوية ميزان المدفوعات، على أن يترافق ذلك مع نهضة إنتاجية شاملة وإنماء متوازن لاستغلال قدرات كل المناطق اللبنانية بحيث يصبح لبنان بلداً مصدّراً يستفيد من الفرص المتوافرة في حركة العولمة، عبر الاستثمار المكثف في إنتاج المأكولات والمواد الزراعية ذات النوعية العالية والخالية من الأسمدة والبذور ، وكذلك الخدمات ذات القيمة المضافة العالية في مجالات عدة مثل الأبحاث الطبية والعلاجية والخدمات المالية العالية الكفاءة للشركات والمصارف الدولية الكبرى وخدمات إلكترونية ومعلوماتية مختلفة، بالإضافة إلى ما يسمى الصناعات الترفيهية ومجالات أخرى مختلفة منها أيضاً إنتاج النفط والمواد النفطية من زراعات بديلة كدوّار الشمس أو الشمندر السكري أو البطاطا، كما أصبحت تفعله العديد من البلدان، وخاصة في جنوب أميركا وذلك يخفف من اعتمادنا على الطاقة المستوردة وكلفتها العالية.
لكن مثل هذا البرنامج يتطلب توسيع الأفق والإيمان بقدرات شعبنا وشبابنا وتحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية في توزيع الدخل والقضاء على نمط التفكير للاقتصاد السائد المبتذل الذي تخطاه الزمن ألفاً وألف مرة، وهو الذي يسهّل ديكتاتورية القوى السياسية نفسها على بلدنا. ولا بد هنا في ختام هذا المقال من التذكير بما قاله الشيخ موريس الجميّل من على منبر الندوة اللبنانية في محاضرة ألقاها في كانون الأول 1952، إذ قال: «إن إحدى الوسائل التقليدية لإضعاف الإنسان هو إفقاره مادياً. ومن جهة أخرى، يعتبر الجميع أن إفقار بلد ما يشجّع على تنامي تيارات الفتنة. لذلك، فإن العمل على إفقار لبنان قد خلق جوّاً مؤاتياً لتفجّر عوامل التفكك السياسي والاجتماعي، وبالتالي تسهيل التدخلات الأجنبية لدى تلك التيارات». ويضيف في وصفه قدرات لبنان الزراعية وثروته المائية الضخمة: «إن فحصاً سريعاً لقدرات البلاد تكشف لنا وجود موارد عملاقة خاصة في المجال المائي. ويكفي أن نتمكن من استعمال المياه لكي نستخرج منها ثروة وطنية استثنائية».
* وزير لبناني سابق