خليل حسين *
لم تكن استقالة رئيس الأركان الإسرائيلي دان حالوتس لتشكّل مفاجأة بالمعنى الزمني للكلمة، لولا ارتباطها بالعديد من القضايا الداخلية والخارجية الإسرائيلية. فالاستقالة كانت متوقعة بالأساس بعيد انتهاء عدوان تموز 2006 بعد سلسلة الانتقادات المباشرة التي وجهت للقيادة العسكرية، وعلى رأسها حالوتس على قاعدة التداعيات الجسيمة لهزيمة إسرائيل وعدم تمكنها من تحقيق أي من الأهداف المعلنة أو غير المعلنة من العدوان. وبصرف النظر عن الحسابات العسكرية والسياسية التي دفعت حالوتس لتقديم استقالته، ثمة دلالات خاصة يمكن قراءتها بتمعّن في كتاب الاستقالة نفسه، الذي يؤشر إلى العقلية الإسرائيلية المصرّة على إبراز إسرائيل كموقع إقليمي وحتى دولي غير قابل للصرف في حسابات الربح والخسارة في الاعتداءات التي تخوضها ضد العرب وغيرهم. ورغم ذلك، ثمة العديد من الإشارات التي توحي بعكس ذلك، وفي هذا الإطار يمكن تسجيل العديد من الملاحظات، أبرزها:
ــ لقد ظهر حالوتس في كتاب استقالته في معرض التأكيد على تحمّله «المسؤولية» التي وردت أربع مرات بصيغ متعددة، أبرزها تبنّي المسؤولية باعتبارها نظرية ملزمة له وذلك في معرض التوكيد بأن إسرائيل ينبغي أن تظل جاهزة للحرب في بيئة معادية لها وفقاً للعقيدة الصهيونية المتوارثة لدى القيادات العسكرية الإسرائيلية المتعاقبة.
ــ وبصرف النظر عن موقعه وتمثيله السياسي في قمة الهرم العسكري، توخّى حالوتس الإشارة إلى الثقة التي أولاه إياها رئيس الوزراء السابق أرييل شارون في محاولة للاختباء السياســــــــــــــي وراء رمز إسرائيلي في العداء مع العرب، وهي رسالة موجهة إلى القيادة السياسية الحالية باعتبارها من خارج السرب العسكري الذي حكم إسرائيل بظروف استثنائية وبخاصة عامير بيرتس المدني الذي تولى وزارة الدفاع. وفي ذلك مؤشر واضح على الإرباكات السياسية في المجتمعين الســــــــــياسي والعسكري الإسرائيلي في المرحلة القادمة في ظروف دقيقة تمر فيها منطقة الشرق الأوسط وما تنتظره من استحقاقات كثيرة ومتنوعة.
ــ لقد ورد اسم لبنان ثلاث مرات في نص الاستقالة، وهي في الواقع تعدّ من الناحية الواقعية والعملية ترجمة واضحة لما تسبب به لبنان من هزيمة غير مسبوقة بحجمها وتداعياتها الحالية والمستقبلية على المؤسسة العسكرية، وتحديداً على رئاسة الأركان وخططها لجهة الأهداف التي عملت عليها من خلال عدوان تموز؛ فلطالما تباهت إسرائيل بمنجزاتها الفارقة في مجال سلاح الطيران واعتمادها الأساسي على التفوق النوعي في مجال تسليحه ومهماته وأهدافه، وبالتالي فإن أول تداعيات العدوان إسقاط نظرية سلاح الجو الإسرائيلي وقدرته على تحقيق أهدافه التي رسمها حالوتس نفسه في معرض التصدي لصواريخ المقاومة في لبنان.
ــ إن غريب المفارقات ما قاله حالوتس في معرض التوكيد على الخدمة التي قام بها «من منطلق الإحساس بالرسالية. وقد عملت من منطلق تفكير عميق وفقاً للقيم الأخلاقية، الإخلاص وطهارة الكف ...». فالقيم الأخلاقية تمثلت بالمجازر المحققة في قانا وغيرها، وطهارة الكف تمثلت ببيع أسهمه في البورصة الإسرائيلية قبل يوم من بدء العدوان، وإخلاصه للمؤسسة التي يرأسها ظهر بإبعاد قائد المنطقة الشمالية لمصلحة نائبه.
ــ لقد صوَّر حالوتس نفسه على أنه القائد المثال الذي يتحمل مسؤولية قراراته وخططه، منزّهاً نفسه من الهروب إلى الأمام في معرض قراره بالاستقالة بعدما أتمت لجنة فينوغراد تحقيقاتها بالدروس المستفادة من العدوان على لبنان واستخلاص العبر على حد تعبيره. إلا أن التمعّن في التوقيت يظهر بأن استقالته ضربة معلم في الحسابات السياسية الداخلية لإسرائيل، فقد اختار توقيتاً مناسباً له لكنه غير مناسب لكل من شريكيه السياسيين في قرار العدوان: أولمرت وبيرتس، بمعنى أنه يحاول في هذا التوقيت بالذات تصوير الهزيمة الإسرائيلية في لبنان بعيون إسرائيلية عسكرية وسياسية في آن معاً.
ثمة الكثير ما يقال في خلفيات الاستقالة وأبعادها، إلا أن الأمر الأهم يكمن في تداعيات ما بعدها، لجهة من سيخلفه وما هي الاستراتيجيات التي ستعمل عليها قيادة الأركان في المرحلة القادمة، وما هو أثرها على الواقع السياسي في الداخل الإسرائيلي.
لا شك بأن سقوط حالوتس، بقوة دفع الهزيمة التي ألحقتها المقاومة به وبقيادة أركانه، سيشكل زلزالاً سياسياً ستصل تردداته إلى القيادة السياسية المعنية باتخاذ القرارات الفارقة في إسرائيل، وبطبيعة الأمر ستطال ضلعي مثلث العدوان على لبنان: أولمرت وبيرتس. فمن الصعب تصوّر سقوط طائرة قيادة الأركان من دون إلحاق الأذية براداراتها السياسية وهي الأهم في مجال التحكم والتوجيه. وإذا كانت مسؤولية الهزيمة ينبغي تقاسمها بالتكافل والتضامن بين ترويكا العدوان، فإنه من باب أولى كذلك ضمّ العديد من الرؤوس الحامية في القيادتين السياسية والعسكرية بركب الترويكا المذكور. وإذا كانت السلطة عزيزة أينما وجدت، فإن الانتخابات التشريعية القادمة ستشكل امتحاناً عسيراً وقاسياً لتجمّع كاديما وريث مخلّفات الليكود والعمل، وهذا ما أيّده استطلاع الرأي الذي أجراه معهد «ساميت». فقد رأى 69 في المئة من المستطلَعين أن على أولمرت تقديم استقالته، في حين أعرب 26 في المئة فقط أنه ينبغي أن يبقى في منصبه. بينما أظهرت النتائج أن 85 في المئة من الجمهور يعتقد أن على بيرتس تقديم استقالته في مقابل 13 في المئة فقط يرون أن عليه البقاء في منصبه.
ثمة ثلاثة مرشحين يتنافسون على خلافة دان حالوتس، ليصبح أحدهم القائد التاسع عشر للأركان في الدولة العبرية، هم: نائب رئيس الأركان الجنرال موشيه كابلينسكي، قائد القوات البرية في الجيش الإسرائيلي الجنرال بنيامين غانتز والنائب السابق لرئيس الأركان الجنرال المتقاعد غابي أشكنازي الذي يعدّ الأوفر حظاً لخلافة حالوتس، ليس فقط لأنه من مقرّبي وزير الدفاع، بل لأنه الوحيد من بين المرشحين الفعليين الذين لم تصبهم لعنة العدوان الأخير على لبنان وليس شريكاً في المسؤولية عن الإخفاقات التي مني بها الجيش.. وبصرف النظر عمّن سيصل إلى هذا المنصب، فإن جملة اعتبارات ستلعب دوراً حاسماً في الاختيار، من بينها محاولة التوفيق بين التجاذبات السياسية القائمة بين بيرتس كوزير للدفاع الذي يرشح، ورئيس الوزراء الذي تتطلب موافقته لذلك. عدا الأهداف المتوخاة في المرحلة المقبلة التي عبَّر عنها حالوتس نفسه بأن «قدر دولة إسرائيل هو أن تواصل المحاربة من أجل وجودها. كما ان القدرة على ضمان النصر في القتال المتواصل هذا تقوم وتسقط على قوتنا». وهو بطبيعة الأمر هدف واضح: مزيد من العسكرة ومزيد من الاعتداءات لإثبات الوجود.
لقد استقال حالوتس لأن المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة ما زالت تؤمن بقوة الردع وضرورة صيانتها، بما في ذلك محاسبة الضباط الذين لم يتقنوا الردع. ولا تشكل استقالته تغييراً، بل تشكل إصراراً على النهج نفسه. فالاستقالة عبارة عن اعتراف ضمني بمسؤولية عسكرية عن فشل إدارة الردع، لا فشل نظرية الردع. لكن الأهم من ذلك هو عدم محاسبة صانعي القرار وعملية صنع القرار بشأن شن الحرب من دون الأسباب الكافية للحرب، ولا حتى بخصوص سياسات غير متعلقة بالأخلاقيات والجرائم، مثل التدخل في الشأن اللبناني الداخلي للقضاء على المقاومة كطرف سياسي، ولا بخصوص المسؤولية عن فشل المفاوضات مع سوريا، ولا حتى بشأن إساءة تقدير قوة المقاومة في لبنان.
ثمة زلزال في إسرائيل ستعقبه تسونامي سياسية نتيـــــــــــجة الهزيمة المدوّيــــــــــــــة لرابع قوة عسكرية في العالم، وذلك بـــــــــــــــــــألسن وعيون إسرائيلية، وثمة في لبنان من يحاول التعمية على نصر المقاومة. إنها فعلاً مفارقة أن يعترف العدو بهزيمته ولا يعترف بعض اللبنانيين بنصرهم!
* أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية