مهدي شحادة *
ولم تجد المقترحات الأخيرة للرئيس الأميركي في شأن خياراته المعلنة تجاه مستقبل أداء إدارته في العراق، سوى بعض التأييد الخجول والمحدود من جانب جهات اعتبرت حتى الآن موالية بشكل مطلق للولايات المتحدة سواء في بروكسل أو في العواصم الأوروبية الأخرى.
وباستثناء الموقف التقليدي لبريطانيا والدعم الشكلي من حكومة الدنمارك، فإن خطة بوش لبلورة استراتيجية تحرك في العراق جوبهت في غالبية الأحوال بنوع من التشكيك وفي بعض الحالات بانتقادات مباشرة.
وتعكس الشفافية التي تعاملت بها الرئاسة الدورية الألمانية تجاه خطة بوش وإعلانها الصريح أنها تشك في نجاعتها، مدى الهوة الفعلية التي باتت تفصل ضفتي الأطلسي حول مسائل دولية حاسمة، وهو موقف ما كان ليحدث لولا قناعة الأوروبيين بأن الإدارة الأميركية الحالية التي تواجه موقفاً ميدانياً صعباً في الخارج وتعقيدات داخلية مع الكونغرس لن تكون قادرة في الفترة المقبلة على تحريك الوضع وبالشكل المطلوب.
ويبدو موقف الرئاسة الألمانية بالفعل معبّراً عن واقع الحال الأوروبي حيث أصدرت ألمانيا بياناً تجنبت فيه انتقاد خطة بوش، ولكنها أعربت من خلاله بشكل صريح عن قلقها من ان مثل هذه التحركات لن تكون قادرة على تغيير دفة الأمور.
وتتجاوز الشكوك الأوروبية في الواقع وبشكل أكيد الملف العراقي وتطال مجمل الاستراتيجية المعلنة أو الخفية التي يجري التخطيط لها في واشنطن حالياً.
ويقول الدبلوماسيون في بروكسل إنه وعلى رغم الانتقادات اللاذعة التي صدرت عن بعض الأطراف الأوروبية وفي مقدمها الرئيس الفرنسي جاك شيراك في شأن خطط التحرك الأميركي واتهامه المتعمد للولايات المتحدة ومباشرة بعد خطاب بوش الأخير بأنها ساهمت في تغذية الإرهاب وحالات انعدام الاستقرار، فإنه لا أحد داخل الاتحاد الأوروبي ولا بين صفوف الحلف الأطلسي يأمل في قرارة نفسه هزيمة أميركية في العراق أو تراجعاً لأداء الولايات المتحدة في المنطقة.
ويرى الدبلوماسيون أنفسهم أن أي انهيار تام للموقف في العراق وقبل نهاية ولاية بوش الحالية، وهو ما يخشاه المحللون، من شأنه التسبب بوضع إقليمي لا تحمد عقباه، والتكريس هذه المرة لنفوذ بعض القوى الإقليمية وفي مقدمها إيران وإسرائيل وتركيا على حساب التوازنات المتعارف عليها حتى الآن.
وتفسر هذه الخشية الحذر الكبير الذي تتعامل به الأوساط الأوروبية وحتى بعض من قوى الناتو مع التوجهات شبه الرسمية الأميركية لتصعيد الموقف مع إيران في هذه المرحلة.
وهناك تركيز على نقاط محددة في هذا الاتجاه ومنها تواتر علامات ومؤشرات إلى مسعى لتكثيف الحضور والانتشار العسكري الأميركي لمواجهة احتمالات حصول حرب مع إيران وخاصة أن القوات الأميركية المعلن عن توجّهها للعراق قد لا تكون لخدمة الغرض المحدد لها رسمياً بل قد تكون بمثابة حشود أميركية تحضيراً لعمل عسكري ما ضد طهران.
وتوجد مشاعر قلق فعلية من ان يسعى الرئيس الأميركي لحسم الموقف بأي ثمن مع إيران متغافلاً عن المعطيات على الأرض ومتجاهلاً إياها، ولا سيما ان الجيش الأميركي لا يبدو قادراً على مواجهة مجموعات التمرد في العراق وهو ما تم التأكد منه وسيكون غير قادر على فتح جبهة إضافية في هذه المرحلة. إن تركيز بوش على إيران وسوريا بشكل منهجي وتلقائي ومتكرر من دون توجيه اهتمام جدي نحو خطة تحرك في الملف الفلسطيني، يثير حيرة الأوروبيين الذين أبدوا حتى الآن استعداداً لمقايضة دعم السياسة الأميركية في العراق بما قد يقدمه الأميركيون لعملية السلام في الشرق الأوسط.
وتابع المسؤولون الأوروبيون بشعور فعلي من المرارة والإحباط جولة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في المنطقة، التي ركزت بوضوح على دعم التأييد لخطط واشنطن ضد إيران ولم تحمل باعترافها الشخصي أي تصور للشق الفلسطيني.
ويرى العديد من المحللين الأوروبيين ان فرص الاستقرار في العراق تظل ممكنة وواقعية في حال توافر الشروط الموضوعية الفعلية لإحداث مصالحة وطنية بين العراقيين قوامها مراعاة آلية عادلة ومتوازنة لإدارة الشؤون السياسية والأمنية بين مكونات المجتمع العراقي ووقف التدخلات الأجنبية في العراق وإبداء دول الجوار تعاوناً في استئصال الإرهاب وتقديم دعم فوري وفعلي لجهود إعادة الإعمار وتمكين العراقيين من تجاوز المحنة الحالية.
ويقول خبراء شؤون المنطقة في المفوضية الأوروبية ان حلحلة الموقف في العراق يمكن ان تتم عبر دعم التحركات الإقليمية في محيط العراق بدءاً من تركيا الى المملكة العربية السعودية وعبر إشراك سوريا وإيران في هجمة دبلوماسية إقليمية.
ويتحرك الرئيس بوش عبر استراتيجية مخالفة ويركز عمداً على استفزاز ايران والإيحاء ان طهران تمثل لبّ المشكلة لا جزءاً من الحل داخل العراق، وهي استراتيجية استعملتها الولايات المتحدة في حرب فيتنام عبر محاولة توسيع رقعة النزاع إلى كمبوديا ولاوس في السبعينيات وأثبتت فشلها.
وقد شجعت صحيفة وال ستريت جورنال المقربة من المحافظين في افتتاحيتها نهار الجمعة 12 كانون الثاني الماضي الإدارة الأميركية على التصعيد مع إيران وسوريا، وقالت ان ضرب أهداف داخل الدولتين بات مبرراً لحماية أرواح الأميركيين!
ويثير موقف بوش الرافض إشراك ايران وسوريا في محاولات إحداث انفراج ولو نسبي وتدريجي في العراق، معضلة حقيقية بالنسبة إلى الأوروبيين حالياً بسبب تشعّب مصالحهم في المنطقة، ودورهم، فضلاً عن مسائل مرتبطة بالموقفين السوري والإيراني مثل عملية السلام في الشرق الأوسط والإشكالية النووية والشراكة المتوسطية والتعاون الإقليمي وبلورة استراتيجية أوروبية جديدة للطاقة.
وضمن هذا المناخ المتصاعد من انعدام الثقة بين الأوروبيين والأميركيين تعددت الاتصالات بين الطرفين في الآونة الأخيرة لتحديد بعض من عناصر اتفاق الحد الأدنى.
وإضافة إلى الزيارات التي قام بها كبار المسؤولين الأوروبيين لواشنطن ومن بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس المفوضية باروزو ومنسق السياسة الخارجية خافيير سولانا، فقد أرسلت واشنطن عدداً من كبار مسؤوليها الى بروكسل، ومن بينهم كبار موظفي الخارجية، إضافة الى وزير الدفاع الجديد نفسه روبرت غيتس.
وأمام المعارضة الأوروبية الصريحة لأي تصعيد عسكري في المنطقة فإن الولايات المتحدة وحسب مصدر دبلوماسي أكيد تريد جر الدول الأوروبية الى اعتماد سياسة التصعيد التدريجي ضد إيران، وتوظيف رفض إيران التعاون في الملف النووي في جر المتاعب عليها.
وتأمل واشنطن ان تقبل الدول الأوروبية تحديداً بالبدء في فرض عقوبات اقتصادية على إيران.
ولكن العديد من الأطراف الأوروبية تعارض ذلك وترى فيه سعياً أميركياً الى عزل القوة المعتدلة في إيران وجر القوى المتشددة في طهران الى المواجهة.
وقررت واشنطن الضغط على الأوروبيين حتى تمتنع الحكومات الأوروبية في مرحلة أولى وحاسمة عن تقديم ضمانات واعتمادات مالية للمؤسسات المتعاملة مع إيران.
ويقول مراقبون إن ألمانيا وإيطاليا المتعاملتين الرئيسيتين مع إيران أبدتا تحفظاً كبيراً خلال اجتماع السفراء الدائمين للاتحاد الأوروبي في بروكسل المكلفين الإعداد لاجتماعات وزراء خارجية الاتحاد المقررة يوم 22 كانون الثاني الجاري في العاصمة البلجيكية.
وتدرس المفوضية الأوروبية حالياً سبل اعتماد خطة جماعية أوروبية للتعامل مع إيران لتجنب حصول تصدع أوروبي علني حول المسألة.
ومن المرجح ان لا تخرج أطر التعامل الأوروبي عن توصيات مجلس الأمن الأخيرة عند اعتماد أية توصية بعقوبات أوروبية ضد إيران.
ويبدو المسعى الفعلي لواشنطن هو فرض المزيد من العزلة على ايران وبشكل مواز تصعيد الضغوط العسكرية عليها حالياً في الخليج.
وتظل الخشية الأوروبية حالياً من ان تركّز إيران كما فعلت في السابق اهتمامها على المواقف الأوروبية وتجعل من علاقاتها مع أوروبا مجال جدل داخلي بين المتشددين والإصلاحيين وهي عملية نجحت فيها إيران حتى الآن.
إن أي انحياز أوروبي لمصلحة المواقف الأميركية ضد طهران سينسف خطط أوروبا المعلنة لإيجاد إدارة متعددة الأطراف للشؤون الدولية كما ردد المسؤولون الأوروبيون.
* مدير مركز الدراسات العربي ــ الأوروبي