ماجد عزام *
«كارني رايس»
لم يكن من المفاجئ أن تبدأ وزيرة الخارجية الأميركية د. كوندوليزا رايس أو د. كوندي حسب صفة التحبّب المفضلة لديها زيارتها الثامنة الى المنطقة بزيارة فلسطين المحتلة على عكس معظم الزيارات السابقة. وهذا الأمر، رغم طابعه الشكلي، يعبر في الحقيقة عن أهداف أو خلفيات الزيارة التي لا تمثل فيها فلسطين سوى المدخل أو الوسيلة التي يجري استخدامها لتمرير السياسات الأميركية في المنطقة.
بداية، يجب الإشارة إلى أن ثمة هدفين رئيسيين لزيارة د. رايس الثامنة، وهما: تمرير أو الحصول على دعم الدول العربية للاستراتيجية أو السياسة اللاسياسة الجديدة للرئيس الأميركي جورج بوش في العراق، والهدف الثاني ليس منفصلاً عن الأول ويكاد يتداخل ويتطابق معه، ويتمثل في الحصول على دعم ومساندة الدول العربية «المعتدلة» للإدارة الأميركية في تعاطيها مع إيران بشكل عام والملف النووي الإيراني بشكل خاص.
وحيث إن ثمة مطلباً عربياً أو بقايا خجل وحياء تمنع من الانخراط العلني والرسمي في الاستراتيجية الأميركية الجديدة من دون تحقيق تقدم ما في الملف الفلسطيني أو على الأقل إعطاء الانطباع بأن ثمة نية أو توجهاً أميركياً للعمل الجدي والجاد والفعال لحل الصراع في فلسطين عبر إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي تتعايش وفق التعبير الأميركي بشكل سلمي وديموقراطي مع الدولة العبرية.
إذاً ضمن هذا السياق ينبغي التساؤل عما فعلت رايس في فلسطين المحتلة وعن حقيقة حملها اقتراحاً أو خطة بإقامة دولة فلسطينية مؤقتة في حدود الجدار الفاصل الذي تبنيه اسرائيل في الضفة الغربية، والتي تدّعي ومعها الولايات المتحدة بأنه مجرد جدار دفاعي وأمني، على أن تؤدي مثل هذه الخطوة إلى فتح الآفاق السياسية أمام مفاوضات إسرائيلية فلسطينية حول الوضع النهائي والقضايا الصعبة والحساسة والشائكة مثل القدس والحدود واللاجئين، وهي الأمور التي أشارت رايس صراحة إلى أنها تهدف إلى جمع الفلسطينيين والإسرائيليين للنقاش حول القضايا التي مرت ست سنوات على نقاشهم فيها. والمقصود بالطبع القضايا النهائية.
الإجابة عن التساؤل السابق تقتضي الإشارة والتأكيد على أن الإدارة الأميركية ليست في وارد إجراء مراجعة عميقة وجدية لسياساتها الفاشلة في العراق والمنطقة وحتى تقرير بيكر هاملتون الذي كان من المفترض أن يمثل حبل النجاة للإدارة الأميركية الغارقة في الفشل حتى أذنيها بات الالتفاف عليه أو تجاوزه هو همّ وجوهر السياسة الأميركية أو الاستراتيجية التي يقال عنها إنها جديدة. وفي الواقع فإن الإدارة لم تقتنع وتختلف جذرياً مع لب أو جوهر التقرير بضرورة الربط بين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبقية ملفات ومعضلات ومشاكل المنطقة وهي ليست في وارد البحث عن حل جدي ونهائي للصراع في فلسطين لأسباب أيديولوجية سياسية، وهي مقتنعة أن هكذا حل ليس في متناول اليد لأن الواقع الاسرائيلي و الفلسطيني الحالي لا يسمح بذلك، غير أنها مضطرة لمواجهة المعضلة المتمثلة في رفض الدول العربية الانخراط الرسمي والعلني في السياسات الأميركية طالما لم تحدث حلحلة ما في الملف الفلسطيني، ومن هنا جاءت رايس إلى فلسطين لتحاول الإيحاء بأن إدارتها جادة في سعيها لحل الصراع وأنها ستبذل قصارى جهدها لمساعدة الأطراف على بلورة هكذا حل. والغريب أن رايس حاولت التصرف في فلسطين كأكاديمية، لا كدبلوماسية. وهي زعمت أنها جاءت لتستمع وأنها قرأت بتمعن في النشاط والسعي الدبلوماسي لحل مشكلة الشرق الأوسط وخرجت بخلاصة مفادها أن لا داعي للاستعجال ــ وحتى بعد ست سنوات من توقف المفاوضات وموت عملية التسوية سريرياًً ــ وأن الأمر يحتاج إلى تحضير جدي ودؤوب، وهذه اللغة أخفت وراءها اقتناع رايس باقتراح وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني المتمثل بإقامة دولة فلسطينية مؤقتة ضمن حدود الجدار الفاصل بحيث تؤدي هذه الخطوة إلى هدنة أو تهدئة مؤقتة أو دائمة، لا مشكلة في التسميات، طالما أنها ستسخّّر لخدمة السياسات الأميركية وحشد الدول العربية وراء تعاطيها مع الملفات الأخرى مثل العراق وإيران وسوريا. وفي السياق أيضاً يمكن استئناف مفاوضات الوضع النهائي بين الفلسطينيين والاسرائيليين من دون مدى زمني معين ومحدد. وهذا الاقتراح يخدم الأهداف الأميركية الاسرائيلية كما سبق ذكره، وفي الوقت نفسه يلتف ويقطع الطريق على أي مبادرات أو حلول أخرى من أي جهة جاءت عربية أو أوروبية أو دولية، ويدفن في الوقت نفسه سياسات فك الارتباط الأحادية الفاشلة لمصلحة الارتباط والتفاهم مع الفلسطينيين ونيل موافقتهم على خطوات وتصرفات اسرائيلية بشكل أحادي وفظّ ومن دون إعطاء أدنى اعتبار للمصالح والآراء والمواقف الفلسطينية، ولأن رايس تعي أن الواقع الفلسطيني الحالي حيث النزاع الداخلي وحيث ضعف الرئيس محمود عباس وعجزه عن فرض ما يريد على الساحة الفلسطينية في ظل خلافه الحاد مع حماس وبقية فصائل المقاومة لا يسمح بالتطبيق الفوري لاقتراح الدولة المؤقتة، وهو الأمر الذي لمسته أيضاً في الواقع الاسرائيلي حيث ضعف وهبوط شعبية إيهود أولمرت وعجزه عن تمرير أي حل في الشارع الاسرائيلي، لجأت رايس إلى الحل المفضل لديها وهو الاستغراق مرة أخرى فى القضايا الميني مرحلية ودعم الرئيس محمود عباس والحرس الرئاسي وفتح المعابر وحرية الحركة أمام المواطنين الفلسطينيين وتطبيق اتفاقية المعابر التي رعتها وأشرفت عليها رايس شخصياً وفتح معبر كارني الذي تمر عبره البضائع من وإلى قطاع غزة الذي كان يفترض أن يشهد مرور 400 شاحنة في اليوم بمعدل وسطي، وبقي طوال العام الماضي مغلقاً تقريباً، ومرت عبره في الحد الأقصى مئة شاحنة في اليوم. وهذه القضايا مثّلت محور لقاء إيهود أولمرت ومحمود عباس قبل شهر تقريباً، ولم يتم تنفيذ أي منها حتى الآن أو تسهيل حرية الحركة أمام المواطنين والبضائع. فمن أصل 100 مليون دولار وعد أولمرت بنقلها إلى رئاسة السلطة لم يتم تحويل سوى 40 مليون شيكل ــ أقل من عشرة ملايين دولار ــ ، ولذلك أشارت رايس إلى لقاء ثلاثي يجمعها مع أولمرت وعباس بعد ثلاثة أو أربعة أسابيع، والمهلة قابلة للتمديد بالطبع لأجل الانتهاء من هذه القضايا الميني مرحلية والتوجه نحو الحلول المرحلية المتمثلة في دولة فلسطينية مؤقتة، على أن يتم بعد ذلك التفاوض ومن دون قيد زمني على الحدود النهائية والقضايا الأخرى المتعلقة بها. ولتحقيق ذلك لجأت رايس إلى اتباع تكتيك تمثل في الإصرار الأميركي الإسرائيلي على تطبيق خريطة الطريق بحذافيرها، مع التشديد على البند الأول الذي يتحدث عن تفكيك البنى التحتية لفصائل المقاومة ونزع سلاحها قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية التي تتضمن خيار الدولة المؤقتة، ومن ثم المرحلة الثانية التي تتضمن عقد مؤتمر دولي شكلي وبروتوكولي لتدشين مفاوضات الوضع النهائي. وهذا التكتيك يستبطن ابتزازاً أو ضغطاً على الجانب الفلسطيني وفق المنطق الآتي: «أميركا مستعدة، ومعها إسرائيل بالطبع، للتنازل عن تطبيق البند الأول من خريطة الطريق لأنه سيؤدي إلى حرب أهلية فلسطينية، وهي الحرب التي لم تتحول إلى خيار نهائي أميركي وإسرائيلي. ومقابل تنازل الفلسطينيين عن المرحلة الثالثة والبدء من المرحلة الثانية من الخطة أي من الدولة الفلسطينية المؤقتة، على أن يتم النظر في تطبيق البندين الأول والثالث في ما بعد.
وسائل الإعلام الاسرائيلية أشارت إلى أن لقاء أولمرت ورايس امتد لثلاث ساعات، ساعتان منها على انفراد من دون حضور أيّ من المساعدين والمرافقين. وحسب التسريبات والسياق العام للأحداث، فقد جهدت رايس لإقناع أولمرت بأن الاقتراح لم يعد خاصاً بمنافسته وزيرة الخارجية تسيبي ليفني المحلّقة في استطلاعات الرأي الأخيرة وأنه أضحى منذ الآن هدفاً أو عنواناً ومدخلاً للاستراتيجية الأميركية الجديدة، وأن عليه الآن كما كان دائماً الخضوع والانحناء أمام هذا التوجه الأميركي الذي لا يمثل أكثر من عملية تجميلية لخطّة الانطواء الأولمرتية الأحادية التي طواها الزمن. وقد استفاضت رايس في الحديث عن دعم الرئيس محمود عباس وعن تحويل الأموال وحرية الحركة للمواطنين والبضائع والمعابر وكارني «هي القضايا الميني مرحلية الهامة والضرورية للتمهيد للانتقال نحو الدولة المؤقتة».
طوال الزيارات الثماني السابقة، ترددت لفظة كارني على لسان وزيرة الخارجية الأميركية كلما أرادت إيجاز أو الحديث عن إنجاز ما لتلك الزيارات، والإيحاء بأن ثمة دبلوماسية أميركية ناشطة وفاعلة على المسار الفلسطيني تبرر للمعتدلين العرب الانخراط والمساهمة في السياق العام للسياسة الأميركية في المنطقة.
كان يجب على د. كارني رايس أن تتوجه إلى العاصمة الإسبانية مدريد لتسمع خلاصات المجتمعين هناك بمناسبة مرور خمسة عشر عاماً على عقد مؤتمر مدريد للسلام. ليس هناك من فرصة لا لحلول أحادية ولا لحلول مرحلية، والحل يكمن في مفاوضات نهائية على كافة المسارات وفق المنطق الآتي: هناك عدد كبير من الأطراف الضالعة في هذا الصراع، لذلك يجب أن تشارك كل الأطراف فيه في الجهود الهادفة إلى التوصل إلى حل. «على فكرة، العبارة السابقة ليست لأي من المجتمعين في مدريد، بل للدكتور كارني عفواً كوندي رايس».
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام