ساحات الصراع في المنطقة
  • طارق عجيب ـــــ دبي

    يفلت زمام الأمور من يد الأطراف المؤثرة والمتأثرة بالأحداث والأزمات التي ابتليت بها منطقتنا العربية ابتداءاً من أزمات سبقت نكبتنا في فلسطين، وصولاً الى العراق وما تلاه، وذلك نتيجة تشابك هذه الأزمات بشكل كثير التعقيد، وانضمام أزمات أخرى رفعت وتيرة التوتر في المنطقة، لتصل بها حد الانفجار. عبثٌ أتاح ــ إن لم يكن فرض ــ لساحات الخلاف والاختلاف في المنطقة، ان تفرز الكثير من المفارقات التي تستحق التوقف عندها، ومن تلك المفارقات الجمة التي تدعو للتأني والحذر في التعاطي، هي الدعوات الكثيرة العدد والمتنوعة المصادر، الى الحوار. حوار يفترض ان يكتسب أهميته من الوعي بضرورة أولويته، ودوره المأمول في إيجاد الحل السحري، وما يلفت النظر ان معظم الأطراف تدّعي تمسكها بالحوار، وتصر على عدم تغليب أي خيار آخر عليه. توجّه هذه الدعوات من كل الأطراف ولكل الأطراف المعنية بشكل مباشر وغير مباشر بأحداث ساحات الصراع، وأسباب هذه الأحداث وتداعياتها، وصولاً الى نتائجها التي يعمل كل طرف على تجييرها بالكامل لمصلحته، أو لمصالحه الشخصية، والتي تستند في غالب الحالات إلى ركائز خارج عباءة الوطن وبعيداً من مصالحه، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف الأخرى التي يفترض التكامل معها لاستكمال النسيج الواحد للوطن.
    والحوار هو عملية محاورة بين أطراف، يتخللها موضوع أو مواضيع يطرحها أحدهم ويدور النقاش حولها، وهو لغة الأقوياء، وعلامة قوة وثقة بالنفس، وبما لدى الإنسان من ثوابت ومسلّمات. ويقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدجار موران: الحوار لا يمكن إلا بين أفراد يتبادلون الاعتراف بأن لكل واحد منهم ذاتاً لها كيانها بين الذوات، ويوفون الآخر ما يرونه لأنفسهم من الأهلية والحقوق. ويفترض بالحوار ان يرتكز على أسس ومبادئ أو مسلّمات، ويبقى النقاش في بعض نقاط وتفاصيل خلافية، الى ان يصل المتحاورون في نهاية حوارهم الى نتائج من المفترض ان تكون مرضية للأطراف المشاركة كافة. لكن عندما تغيب تلك الأسس والمبادئ، الحاملة لهذا الاجتماع وأهدافه المرجوة، يفقد حينها هذا الاجتماع صفة الحوار.
    فإما ان يكون لغواً، لا نية الفعل حاضرة فيه ولا قيمة له أو لا جدوى منه، ولا يجزى المقترف على ما اقترفه من فعل الاجتماع.
    وإما ان يأخذ الاجتماع صفة التفاوض، والتفاوض يعني التساوم في سبيل مصالح والتوصل الى إبرام اتفاق، أي من دون أية منطلقات مشتركة أو أسس واحدة تتفق عليها الأطراف المشاركة، بل على أساس ما سأتنازل عنه وما سأحصل عليه، أي مساومات وصفقات، يتنازع على تفاصيلها المجتمعون، حتى التراضي كيفاً أو قسراً، كل بما استطاع ان ينتزع لأهدافه وغاياته، وأحياناً لما هو مرسوم له ومكلف بتنفيذه، لينتهي الاجتماع بتبادل المكاسب والتنازلات، ومقدار النجاح والفشل، يوزن بميزان الطرف نفسه، الذي يضع بيضة قبانه في المكان الذي يرجّح كفته.
    في المحصلة، تظهر ثلاثية/ الحوار ــ اللغو ــ التفاوض/، لتعبث في ساحات الصراع في المنطقة، وتنعكس سلباً على محاولات الحراك السياسي فيها، ليبقى حجر الرحى يخرش آذاننا جعجعة، من دون ان يسكت طحينه جوعنا. الخاسر الأكبر حينها طبعاً هو البلد (الوطن)، ساحة الصراع، التي سببت لقاءهم، فكانت الغائب الأكبر حين تقاسموا الغنائم على بطنها وظهرها، وتركوها لبؤس مصيرها، إن لم يكونوا قايضوها بمكاسب أنانية بحتة، ما يخلق أوضاعاً جديدة تستدعي صراعات جديدة، تمتد ألسنة لهيبها لتطال ساحات أخرى، تتشابك بدورها مع تلك الساحة جغرافياً، أو سياسياً أو اقتصادياً، أو عقائدياً.
    خير مثال ودليل على ما ذكر سابقاً، أن أطراف الخلاف والاختلاف في ساحات التوتر في منطقتنا العربية، فلسطين، العراق، لبنان، وغيرها، ترفع حين تتنادى الى اللقاء، شعارات متقاربة، وتغرق في تصريحات متشابهة، وتتباهى بأهداف سامية تصب في مصب واحد، لكن ما نتج من لقاءاتها الكثيرة سابقاً، وما بدا في أيديولوجيتها ومنهجيتها وتعاطيها مع الآخر، يدفع للتشكيك في كونها تستند في اجتماعاتها إلى أي أسس ومبادئ مشتركة، تشكيك يصل حد الاعتقاد انها ربما تلتقي على خلفيات مختلفة، وأسس ومبادئ متناقضة، يضاف هذا الى التخوف الشديد الذي يستند أحياناً الى بعض المبررات من وجود أهداف وأجندات خاصة متباينة، يعمل كل طرف جاهداً ومدعوماً لتحقيقها بأي ثمن، حينها يغلب منطق التفاوض على ما يدور بينهم تحت تسمية الحوار، وهو يؤدي غالباً الى إنهاء اللقاء، إن لم يكن على اختلاف أشد وتوتر أكبر وتعنّت في المواقف، فمعظم الأحيان من دون تحقيق أي تقدم، اللهم سوى الاتفاق على الاستمرار في المفاوضات (الحوار).