عصام نعمان *
لا أسعى بملاحظاتي هذه الى كتابة تحقيقٍ صحافي. ما أفعله هو التفكير بصوت عالٍ والإفصاح عن أفكار خام بطلاقة محسوبة. لماذا هي أفكار خام؟ لأنها نتاج ما أرى من مشاهد على شاشات الأقنية التلفزيونية المحلية والعربية والعالمية، وما أسمعه من تعليقات مراسليها ومن تصريحات السياسيين على ضفتي لبنان، ضفة المعارضة وضفة الموالاة. إنها أفكار لم تُختبر صدقيتها بعد في دنيا الواقع، ولم تتبلور كفايةً بمقارنتها مع أفكارٍ وأفعالٍ أخرى أفرزتها الأحداث المتلاحقة:
• المعارضة واسعة ومتنوعة. لعلها أكبر وأقوى معارضة شعبية في تاريخ لبنان المعاصر. إنها معارضة واحدة، متحدة ومتشددة ضد الحكومة والطبقة السياسية التقليدية المركنتيلية المتحكمة بالبلد بمكابرة وعنادٍ أسطوريين. لكنها معارضة متنوعة بل متعددة حتى حدود التنافر في ما يتعلق بمرحلة ما بعد حكومة فؤاد السنيورة. المعتدلون في المعارضة يكتفون بمعارضة الحكومة ويُطالبون باستبدالها بحكومة وحدة وطنية ائتلافية، للمعارضة فيها ثلثٌ معطل كي تُشكل منتدى للتحاور والتشاور حول تسوية مقبولة لأزمةِ حكمٍ متمادية. الجذريون في صفوفها يعلنون أنهم ليسوا ضد الحكومة فحسب بل ضد النظام أيضاً. هم يبتغون استبدال النظام الطائفي الفاسد بآخر مدني ديموقراطي يتجاوز الطائفية والفساد على مراحل. لمن ستكون اليد العليا والصوت الأعلى في قابل الأيام؟
• من الواضح ان المعارضة سيطرت على الأرض. فقد لجأت إلى لون بسيط من ألوان العصيان المدني هو سدّ الطرق الرئيسة ومفترقاتها الحيوية بنيران العجلات المحترقة. هذا التحرك الفاعل أدى إلى تحقيق إقفال عام شمل الأسواق التجارية والإدارات والمرافق العامة في معظم المناطق. بكلمة، المعارضة تمكّنت من شلّ البلد. السؤال: ماذا يبقى من سلطة لحكومة السنيورة بعدما افتضح عجزها عن السيطرة؟ أية قيمة تبقى لحكومة أضحت أشبه بحكومة منفى في وطنها؟
• امتنعت وحدات الجيش والأمن الداخلي من التصدي للمتظاهرين والعاملين على سدّ الطرق وإنجاز الإقفال العام. البعض فسر هذا الموقف بأنه، موضوعياً، انحياز إلى قوى المعارضة. البعض الآخر فسّره بأنه عجز عن التصدي لقوى المعارضة بعد اتضاح اتساع رقعة حركتها وفعالية عصيانها المدني. الحقيقة ان موقف القوات المسلحة عموماً يجد تفسيره الراجح في تركيبتها الدقيقة البالغة الحساسية. فهي، أولاً وآخراً، جزء من الاجتماع السياسي اللبناني، فيها من يميل إلى الفريق الحاكم ومن يميل إلى المعارضة. لذا وجدت قيادة الجيش، وحتى قيادة قوى الأمن الداخلي، ان المحافظة على وحدة القوات المسلحة هي أولوية مطلقة. ذلك أن بقاءها موحدةً ومحيّدة يعني، في التحليل الأخير، إبقاء العمود الفقري لجسم «الدولة» المعتلّ قائماً. غير ان الفريق الحاكم أعطى قيادة الجيش من حيث لم يقصد حجةً إضافية للاعتصام بموقف الحياد. فقد نزل بعض أنصار قوى 14 آذار الأكثر تطرفاً الى الشارع في بعض المناطق بغرض التصدي للمتظاهرين من أنصار المعارضة واشتبكوا معهم، الأمر الذي استدعى تدخل وحدات الجيش والأمن الداخلي للفصل بينهم. بذلك اكتسبت هذه القوات، ولا سيما الجيش، صفةً ودوراً مطلوبين وفاعلين هما الحياد والفصل بين المتقاتلين. هل أدرك رئيس الحكومة وأركان الفريق الحاكم انه ما عاد في وسعهم، بعد كل ما جرى، استخدام الجيش لفرض سيطرةٍ ضاعت منهم نهائياً؟
• حرص البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير على الشكوى غيرَ مرة من انقسام المسيحيين وتناحرهم ما أضعف موقفهم. لعله يتذكر ما تطوّر إليه الوضع قبل 18 سنة عندما اشتبك أنصار حزب «القوات اللبنانية» (بقيادة سمير جعجع) مع قوات الجيش اللبناني (بقيادة العماد ميشال عون). فقد أضعف الاشتباك آنذاك القوى السياسية المسيحية وجعل من مؤتمر الطائف وبالتالي اتفاق الوفاق الوطني الناجم منه أمراً ممكناً وربما في غير مصلحة المسيحيين، كما يدّعي البعض. ترى هل يتسبب «القواتيون»، مرةً أخرى، بإضعاف القوى السياسية المسيحية عموماً، ولا سيما تلك المنخرطة في تحالف 14 آذار، على نحوٍ يؤدي أيضاً إلى إضعاف مجمل الفريق الحاكم؟
• يروي الأمين العام لـ«القوة الثالثة» الرئيس سليم الحص أن السنيورة قال له إن أنصار قوى 14 آذار هم الأكثرية الساحقة في البلاد، وانه لهذا السبب يرفض الاستقالة، كما يرفض القبول بمطلب المعارضة الداعي الى تأليف حكومة وحدة وطنية! يبدو ان السنيورة وزملاءه في الفريق الحاكم ما زالوا متمسكين برأيهم ذاك على رغم التظاهرات والاعتصامات الحاشدة ويوم العصيان المدني الشامل الذي نفذته المعارضة أول من أمس. إذا كان هؤلاء مقتنعين فعلاً بما يقولونه، فلماذا لا يوافقون على إجراء انتخابات عامة مبكرة؟ لقد فقدت الحكومة سيطرتها تماماً على البلاد، والمعارضة تتوعّدها بمزيد من التصعيد والعصيان، فهل يقتضي ان يمتحن الفريق الحاكم نفسه وقوته أشهراً وسنوات، كما فعل سلفه في ثمانينيات القرن الماضي، مستجرّاً على البلاد والعباد الويلات والخسائر والأضرار قبل ان يسلّم بضرورة التوصل إلى تسوية مع المعارضة؟ وهل التسوية المرتقبة ستكون شيئاً آخر غير الاتفاق على حكومة وطنية انتقالية جامعة لوضع قانون انتخاب ديموقراطي عادل وإجراء انتخابات عامة على أساسه؟
• بات واضحاً ان قرار الفريق الحاكم ليس في يده أو قُل إنه يتأثر كثيراً بموقف حكومتي أميركا وفرنسا المتشددتين إزاء قوى المقاومة اللبنانية وحلفائها السياسيين. في هذه الحال، ماذا ستكون الخطوة التالية للمعارضة بعدما رفضت حكومة السنيورة، ومن ورائها أميركا وفرنسا، الاستجابة لمطالبها أو التزحزح عن سياستها الراهنة؟ هل تصعّد تحركاتها الشعبية في المستقبل المنظور بخطوات من الطراز نفسه الذي تبدّى بالأمس أم تُطلق تحركات أخرى أكثر جذرية؟ وفي هذه الحال، هل تطلب حكومة السنيورة النجدة من أميركا وفرنسا لاستصدار قرار بوضع القوات الدولية المتمركزة في جنوب لبنان بتصرفها لاستخدامها ضد المعارضة بشكلٍ أو بآخر؟ أم هل تُغامر إدارة بوش بالتدخل عسكرياً لإنقاذ نظامٍ حليفٍ يتداعى؟
• لو طُلب إليّ اليوم ان أحكم على الوضع الذي انتهت إليه حكومة السنيورة لقلت إنها قُتلت لكنها لم تمت بعد، وإن أميركا وأوروبا ستمدها بإسعافات سياسية ومالية وربما عسكرية متعددة الأشكال لتمكينها من مصارعة مرض الموت بانتظار انجلاء المشهد الإقليمي، ولا سيما في العراق. هذا المشهد سيطول انتظاره لأن ما تعانيه إدارة بوش عسكرياً في العراق وسياسياً داخل أميركا نفسها، ولا سيما في أروقة الكونغرس ولدى الرأي العام، لا يسمح لها بتسجيل نصر ميداني أو سياسي سريع في العراق ولا في أميركا.
الصراع، إذاً، مستمر ومتصاعد.
* وزير لبناني سابق