بولس خلف*
إن التجاذبات التي تعصف بالمسيحيين في لبنان تستأهل التوقف عندها ملياً. فهي أكثر من مجرد خلاف بين قوى حزبية وشخصيات سياسية وزعامات تاريخية وبيوتات إقطاعية على موقع في السلطة أو حصة في المؤسسات، وإن كانت صورة المشهد الحالي قد توحي بذلك للوهلة الأولى.
في الحقيقة، إن كلمة تجاذبات تعبير مخفّف جداً لوصف الواقع الحالي على الساحة المسيحية. فنحن أمام اختلافات عميقة، ليس فقط في وجهات النظر على معظم القضايا ولا حتى في الأساليب المعتمدة من كل طرف لمعالجتها، بل على دور المسيحيّ في بيئته ووطنه ومحيطه.
لا شك أن الانقسام الحاد في الشارع المسيحي لا يمكن فصله عمّا جرى في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية وعن المتغيرات الدراماتيكية على صعيد المنطقة. فلا بد من أن يكون هذا الكمّ الهائل من الأحداث قد ترك أثره على التطور الفكري والنفسي والسوسيولوجي والسياسي للبيئة المسيحية. لكن الصورة التي يكوّنها المسيحي عن نفسه وعن الآخرين تبقى المحرّك الأساسي لكل الاصطفافات السياسية الحالية والمستقبلية. والدور الذي يطمح إليه، أو الذي يرضى به إذا ما أعطي له، هو أحد المكوّنات الرئيسية لهذه الصورة عن الذات.
لعل المفردات والأفكار التي يستعملها كل من الجنرال ميشال عون والدكتور سمير جعجع في خطابهما السياسي تسمح بتحديد الهوية الفكرية والخيارات الثقافية لأبرز تيارين مسيحيين وفهم أسباب تموضعهما الحالي في المعادلة اللبنانية المستجدة منذ الانتخابات النيابية لخريف 2005. الرجلان ينتميان الى مدرستين مختلفتين تماماً، ولهما جذورهما في التاريخ المعاصر. عندما يردد الدكتور سمير جعجع أن العماد ميشال عون أخذ المسيحيين الى موقع استراتيجي مختلف، على تناقض تام مع موقعهم التاريخي، فهو يلخص بجملة واحدة كل البناء الذي يرتكز عليه فكره السياسي. إذاً، قائد القوات اللبنانية يعتقد أن خيارات الجنرال عون تصبّ في غير مصلحة المسيحيين، بينما الطريق الذي اختاره هو تحقّق هذه المصلحة، السبب هو أن «الغرب المسيحي» يدعم بكل قواه الفريق السياسي الذي ينتمي إليه. الدكتور جعجع لا يرى في هذا الدعم إلا أنه آت من «الغرب المسيحي»، وهذا كاف، بالنسبة إليه، كي يطمئن إلى صحة تحالفاته. حتى لو أن الوقائع تؤكد أن شريكه في التحالف السياسي أمعن في تهميش المسيحيين خلال فترة الوصاية السورية، ولا يزال، فهذا لا يفيد شيئاً في خياراته. موقف الدكتور جعجع نابع من مدرسة فكرية ترى أن المسيحي اللبناني هو امتداد طبيعي للغرب المسيحي، وهو ليس كياناً منفصلاً عن هذا الغرب، بل هو جزء منه. وبالتالي، كل ما يأتي من الغرب يكون أوتوماتيكياً لمصلحة المسيحيين. إنها نظرة تبسيطية وفيها قدر من السذاجة، وهي منتشرة عند جزء من النخب المسيحية، ولا سيما تلك التي ترى أن ليس هناك من قواسم مشتركة مع المسلمين وأن المسيحيين لا يمتّون بأي صلة للعرب. ولا يقتنع أصحاب هذه النظرة بأن معظم تدخلات الدول الغربية عبر التاريخ أدت الى عواقب وخيمة بالنسبة للمسيحيين في الشرق، كتضاؤل أعدادهم وانحسار رقعة انتشارهم الجغرافية ودخول علاقتهم مع أبناء الطوائف الأخرى في حال من التوتر ومن فقدان الثقة. ودون الحاجة إلى العودة للحملات الصليبية أو لتدخلات الدول الأوروبية في المشرق خلال القرن التاسع عشر، يكفي النظر إلى ما أصاب المسيحيين العراقيين من ويلات وقتل وتشريد وانعدام أمن وحتى من صعوبة في ممارسة شعائرهم الدينية بكل طمأنينة، بعد غزو الجيش الأميركي للعراق واحتلاله. ها هو تدخل الغرب المباشر بالعراق يؤدي الى كارثة بالنسبة للمسيحيين!
البطريرك مار نصر الله بطرس صفير له نظرة متطابقة مع رؤية الدكتور سمير جعجع حول ضرورة التحالف مع الفريق الذي يحظى بدعم الدول الغربية. ورغم أن هذا «الغرب المسيحي» المتمثل بالولايات المتحدة وبفرنسا ضغط بقوة كي تجرى الانتخابات النيابية الأخيرة في ظل قانون عام 2000 الذي فصّل بهدف منع المسيحيين من اختيار ممثليهم الحقيقيين بحرية، فلم يغير رئيس الكنيسة المارونية رأيه. اكتفى بتسجيل موقف اعتراضي، سرعان ما تجاوزه، ثم عاد يطلق مواقف تتبنى بمعظمها طروحات الرابع عشر من آذار وتؤمن تغطية للفريق المسيحي داخل هذا للائتلاف.
العماد ميشال عون ينتمي الى مدرسة أخرى لا تتصرف كأن المسيحي اللبناني هو مجرد امتداد «للغرب المسيحي». وقد برهنت حركته السياسية في السنة ونصف السنة الماضية أنه ينظر الى المسيحيين على أنهم قوة فاعلة داخل بيئتهم، يملكون ديناميكية خاصة بهم، ويطمحون الى لعب دور فعال في السياسة والاقتصاد نابع من قوتهم الخاصة، لا من الدعم الخارجي، ولا سيما الغربي. رؤية الجنرال عون هذه دفعته الى الاصطدام مع الغرب في محطات رئيسية، لعل أبرزها كان خلال حرب تموز عندما أخذ جزءاً كبيراً من المسيحيين الى موقع معاد لإسرائيل يتناقض بشكل صريح مع مصالح الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية. ولإعطاء مشروعية «مسيحية» لخياراته، يعود رئيس التيار الوطني الحر الى الإرشاد الرسولي، الذي أصدره البابا يوحنا بولس الثاني، الذي يدعو المسيحيين في الشرق الى التفاعل مع قضايا شعوب المنطقة. يتحرك ميشال عون خارج إطار حركة السفراء الغربيين في بيروت الذين يسعون الى إسداء النصائح وربما التعليمات الى عدد كبير من رجال السياسة، يدّعون أنهم سياديون واستقلاليون. وقد برهن أن مكوثه في المنفى خمس عشرة سنة في فرنسا وإعجابه بالثقافة الغربية وخيباته من شركائه في الوطن وصراعه المرير مع سوريا، كلّ ذلك لم يدفعه الى الارتماء في أحضان الغرب واعتبار المسيحيين رأس جسر للعالم الغربي في المشرق.
إن الانقسام الحالي في الشارع المسيحي هو امتداد لواقع لطالما وجد في التاريخ، سمير جعجع يمثل الوريث السياسي لإميل إده، والكتلة الوطنية التي أرادت بقاء الانتداب الفرنسي. أما ميشال عون، فهو وريث بشارة الخوري والكتلة الدستورية التي ناضلت من أجل إنهاء الانتداب ونيل الاستقلال. التاريخ يعيد نفسه بالعناوين ذاتها، لكن بأسماء مختلفة.
*كاتب لبناني