وليد شرارة *
المأزق الأميركي المتعاظم في العراق والمنطقة لم ينعكس جدياً على أبحاث عدد كبير من مراكز الدراسات والخبراء المزعومين في الشؤون العربية والاسلامية. بل يحاول هؤلاء الاستفادة من هذا المأزق لتقديم مقترحاتهم وتصوراتهم على انها المشروع البديل الكفيل بإخراج الولايات المتحدة من هذا البلد. أحد هذه التصورات، الذي قدمه رالف بيترز (Ralph Peters)، الضابط المتقاعد ونائب رئيس الأركان الأسبق للاستخبارات في وزارة الدفاع الاميركية، يستحق الاهتمام.
فقد نشر في «مجلة القوات المسلحة» (The armed forces journal) الموجهة لضباط الجيش الاميركي والتي تملكها مجموعة «آرمي تايمز بابليشينغ كومباني» (Army Times Publishing Company) التابعة لمجموعة غانيت (Ganett) التي تملك تسعين صحيفة يومية واثنتين وعشرين قناة تلفزيونية في الولايات المتحدة. أما الكاتب فهو عضو في هيئة تحرير المجلة المذكورة وباحث مهم في قضايا الاستراتيجية العسكرية، كان لمساهماته تأثير ملحوظ في العقيدة العسكرية الأميركية الجديدة وفي مشاريع تطوير القوات المسلحة. أبرز مؤلفات رالف بيترز هي: القتال من أجل المستقبل ــ 1999، ما بعد الإرهاب ــ 2001، ما بعد بغداد ــ 2003، لا تُخلِ ساحة المعركة ــ 2006. المقال الذي نشر في مجلة القوات المسلحة هو أحد فصول الكتاب الأخير. اختار الكاتب للمقال عنواناً يشي بخلفيته الفعلية: «حدود دامية. ما سيكون عليه شكل شرق أوسط أفضل». وهو يرى ان أصل جميع مشكلات منطقة الشرق الأوسط ومحنها هي حدود الكيانات السياسية الناجمة من التقسيم الاستعماري في بداية القرن العشرين والتي تحرم مجموعات بشرية كثيرة، إثنية ودينية وطائفية، «حقها في تقرير المصير والعيش في كيان سياسي خاص ضمن حدود آمنة». وينتقد بيترز الديبلوماسية الغربية لأنها، برأيه، لا تذهب بعيداً في إعادة النظر في الحدود السياسية القائمة حالياً على الرغم من ان الحدود، حسب تعبيره، «ليست مقدسة وهي تتغير باستمرار وهذا ما يجري اليوم أمام أعيننا في الكونغو وكوسوفو والقفقاز. طبعاً، يرافق هذه العملية سر قذر آخر عمره خمسة آلاف سنة وهو التطهير العرقي».التطهير العرقي ظاهرة مفهومة وقديمة بمنظور بيترز فهي السبيل الوحيد الذي يتيح لأية جماعة من الجماعات تحقيق الانسجام الديني أو الطائفي أو الإثني داخل حدود كيانها، والانسجام شرط أساسي إن لم يكن الشرط الأول للاستقرار السياسي والاجتماعي. انطلاقاً من هذه «الحقيقة»، تصبح المجازر المتنقلة في العراق وعمليات التطهير الإثني والمذهبي أمراً طبيعياً بل وحتى ضرورياً.
يعتبر بيترز ان الولايات المتحدة فوتت فرصة تاريخية عند غزوها العراق لأنها لم تقسّمه الى ثلاث دول، كردية في الشمال، سنية في الغرب، وشيعية في الوسط والجنوب (مع بغداد). الدولة الكردية ستكون الخطوة الأولى لإنشاء كيان كردي يمتد من ديار بكر الى تبريز ما يفترض تقسيم تركيا وايران أيضاً. تركيا ستفقد قسماً آخر من أراضيها لمصلحة أرمينيا. أما إيران فستفقد، وفقاً لرؤى بيترز، قسماً من أراضيها في الشمال الغربي لمصلحة أذربيجان وفي الجنوب الغربي (خوزستان) الذي سيُضم للدولة الشيعية العراقية التي ستضم أيضاً المنطقة الشرقية في السعودية والبحرين. وستُقتطع أيضاً بلوشستان من إيران والمناطق البلوشية الواقعة في باكستان لتشكلا معاً دولة بلوشية. السعودية ستفقد أيضاً، وفقاً لترسيمات بيترز، جنوبها الشرقي لمصلحة اليمن وشمالها الغربي لمصلحة الأردن، والمنطقة الـــــــــــــتي تضم مكة المكرمة والمدينة المنورة التي ستتحول «دولة إسلامـــــــــــية عالمية». أما سوريا فستفقد ما بقي لها من مناطق ساحلية لمصلحة لبنان الــــــذي سيــــــــــــتوسع شمالاً.
كان من الممكن اعتبار هذا التصور والأطروحات الشبيهة له، مجرد تهويمات لو لم تكن صادرة عن أوساط ذات تأثير ونفوذ داخل الإدارة الأميركية ومؤسسات الدولة العسكرية والأمنية. لا شك في ان هناك أكثر من وجهة نظر في ما يتعلق بكيفية خروج الولايات المتحدة من مأزقها الحالي، فإن كان تقرير لجنة بيكر ــ هاملتون قد عبّر عن وجهة نظر قطاع لا يستهان به من كبار موظفي وبيروقراطيي وزارتي الخارجية والدفاع ومؤسسات الدولة الأخرى المختلفة وقسم من الشركات الكبرى، بما فيها شركات النفط، فإن آراد بيترز وليسلي غيلب وبيتر غالبريث وغيرهم من أصحاب النظريات التقسيمية الجزئية (على مستوى العراق) أو الشاملة للمنطقة ككل، يعبّرون عن توجهات قطاعات أخرى داخل مؤسسات وأوساط الشركات الكبرى. لقد أشار عدد كبير من الباحثين الى ان الحرب على العراق كانت تتضمن بعداً خاصاً مرتبطاً بمصالح الشركات الداعمة للمحافظين الجدد التي حصلت على جزء مهم من عقود إعادة الإعمار ومن عقود النفط بعد الحرب والتي ستكون المستفيد الأول من عملية بيع القطاع العام العراقي.
لقد باتت السياسات التي تعتمدها الدول الغربية المهيمنة، وبشكل خاص الولايات المتحدة، تعكس إلى درجة كبيرة المصالح الخاصة لكتل وأجنحة داخل هذه الدول وليس كما هو مفترض المصالح الوطنية العليا للدولة وثوابتها الاستراتيجية. بل من الممكن القول بأن خصخصة السياسة الخارجية الاميركية في الشرق الأوسط على وجه الخصوص، من جانب تكتّل من المحافظين الجدد والصهاينة والشركات الكبرى، قد يكون لها تداعيات خطيرة بالنسبة إلى دول المنطقة وشعوبها على المدى القصير لكنها ستكون مدمرة بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة وهيمنتها الإقليمية على المديين المتوسط والبعيد.
*كاتب لبناني