سعد الله مزرعاني *
«سنوقف الهجمات على قواتنا وسنوقف تدفق الدعم من إيران وسوريا، وسنكشف الشبكات التي تقدم الأسلحة المتطورة وتدرب أعداءنا في العراق، وندمرها». «أمرت أخيراً بنشر مجموعة ضاربة إضافية من حاملات الطائرات في المنطقة. سنوسع تقاسم المعلومات الاستخبارية وسننشر أنظمة صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ لطمأنة حلفائنا وأصدقائنا. سنعمل مع حكومتَي تركيا والعراق لمساعدتهما على حل مشاكلهما على طول الحدود بينهما. وسنعمل مع آخرين لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية ومن الهيمنة على المنطقة».
هذا هو، إذن، المنطق العسكري ــ الأوامري ــ الدموي الذي «بشرنا» به الرئيس الأميركي جورج بوش في استراتيجيته «الجديدة» التي أعلنها في الأسبوع الثاني من العام الجديد. وهو منطق، أو استراتيجية ستحكم سياسة واشنطن حيال العراق وسوريا وإيران ودول الخليج و«الحلفاء والأصدقاء» في تركيا وإسرائيل وأوروبا ومجلس الأمن وأوستراليا...
وتنسحب هذه الاستراتيجية «الحربية» الجديدة، أيضاً، على لبنان وإسرائيل. هذا ما يؤكده لنا منطق الأمور. وهذا أخبرنا به جهاراً «المساعد الأقرب» لوزيرة الخارجية الأميركية (والرجل المرشح للحلول مكانها)، وكيل الوزارة للشؤون السياسية، السيد نيكولاس بيرنز. قال في مدينة دبي منذ أيام: «السنتان المقبلتان من ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش ستكونان مكرستين للشرق الأوسط. وستكون هناك أربع أولويات بالنسبة إلى المنطقة هي إيران والعراق وإسرائيل ولبنان».
أما المعادلات والمحاذير التي يجب أن يعرفها الأصدقاء والمنافسون، قبل الأعداء فهي: «الفشل في العراق سيشكل كارثة للولايات المتحدة الأميركية». و«سيشكل كارثة للدول والأنظمة المعتدلة». «سينشر الإسلاميون المتطرفون الفوضى في المنطقة... وستتشجع إيران على امتلاك برنامجها النووي...».
ببساطة، هذه ليست «استراتيجية جديدة». إنها الاستراتيجية القديمة نفسها، معززة بإضافة 21500 جندي أميركي، وبقرارات دموية أكثر ضراوة ضد الخصوم في أحياء بغداد ومحيطها خصوصاً، وبإملاءات قاطعة لكي يشكل «المعتدلون» والحلفاء والأصدقاء أطرافاً أكثر نشاطاً في تنفيذها. إنها معادلة أنه لا سياسة أخرى لحماية الشعب الأميركي ولمنع انهيار الحكومة العراقية والأنظمة المعتدلة، ولوقف زحف المتطرفين للسيطرة على المنطقة... إنها باختصار المعادلة الشهيرة نفسها التي يرددها الرئيس الأميركي، مرة جديدة، وبصوت يحاول، رغم الوهن الشديد، أن يكون أقوى: إما أنا، أو «بن لادن»!
لن نتوقع إذن، جديداً فعلياً في المنطقة، إلا لمزيد من القتل والدمار والفتن والأزمات... مقروناً بغياب السياسة والتسويات والحلول.
وهذا ينطبق، للأسف على لبنان: بمقدار ما يمثله بلدنا من أولوية في السياسة الأميركية الراهنة حيال المنطقة. وبسبب إصرار فريق السلطة على أن يكون أميركياً أكثر من الأميركيين، ونتيجةً لما يحظى به الرئيس فؤاد السنيورة من مظاهر الدعم غير المسبوق من واشنطن! ونعود إلى التذكير بأنه رغم هزيمة العدوان الأميركي ــ الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي، فبالمقارنة مع أماكن أخرى، فإن بلدنا يبدو الحقل الوحيد الذي حظيت فيه السياسة الأميركية ببعض النجاح. وهو بالتأكيد، نجاح ثمين ينبغي الحفاظ عليه بأي ثمن. ويستدعي ذلك، هنا، إحلال التشدد السياسي مكان التشدد العسكري. أي إن ما تسعى إليه واشنطن في العراق من خلال تصعيد الحروب والقتال والفتن وحشد الجيوش والأساطيل، تحاوله هنا من خلال التصلب السياسي مقروناً بكل أشكال التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية. والظريف أن واشنطن، ومعها باريس السيد جاك شيراك، تمارس هذا التدخل تحت عنوان وقف تدخل الآخرين، الخصوم، في الشؤون الداخلية اللبنانية. ويردد هذا الصدى بحماسة وبتوتر قلَّ نظيرهما، قادة فريق السلطة. ويعكس ذلك بالطبع، رهاناً على نجاح واشنطن في لبنان وفي المنطقة. ويمكن القول دون تردد، إن هذا الرهان، هو رهان مصيري لدرجة أن هؤلاء يخشون من فشل واشنطن، ليس فقط على مصيرهم السياسي، بل حتى على مصيرهم الشخصي! (كنا قد أشرنا في مقالة سابقة إلى أحد مصادر هذا الخلل الممعن في التفاقم والعائد إلى مرحلة الإدارة السورية للبلاد وحتى إلى بعد تلك المرحلة).
لا نستطيع أن نقارب الشأن اللبناني من دون النظر في هذه الوقائع السائدة على مستوى المنطقة، التي أبرزها وأخطرها الاندفاعة الدموية العدوانية للرئيس الأميركي، في ما بقي له من الولاية الثانية. وينطبق ذلك على ما يتصل بالشعب الفلسطيني الذي لا يحظى من الاهتمام الأميركي إلا بالتحريض على الانخراط في حرب أهلية، سيكون من شأنها ــ إن وقعت ــ أن تعفي الصهاينة من كل الجرائم التي يمارسونها للقضاء على ثمرات حقبة كاملة من البطولات والتضحيات والآمال الفلسطينية.
إن السلطة في لبنان، ممثلة بالحكومة المنتقصة التمثيل، تشكل جزءاً من القوى الملتحقة بالمشروع الأميركي، والمراهنة، مصيرياً، على نجاحها، الذي فيه، فقط، استمرارها. وهي لذلك طرف نشيط في الارتباط بهذا المشروع، وفي تنفيذ مستلزماته. وهنا يكمن الأساس، في مرحلة ما بعد الحقبة السورية، في تحويل لبنان إلى ساحة. وهذا يناقض تماماً ما يردده الذين يستمرون في «الارتزاق» مما انطوت عليه تلك الحقبة من جسيم الثغرات، وخصوصاً بعد العام 2000. فهؤلاء، وبينهم «يساريون بالورقة» كما كان يقول أحد الشعراء، يريدون حجب غابة المشروع الأميركي الشرق أوسطي، بشجرة بقايا نزعات أو بقايا قوى يراودها حنين العودة إلى المرحلة السابقة على 26 نيسان عام 2005، أي مرحلة الوصاية السورية على لبنان.
والذي يجب قوله في هذا الصدد، بل الذي يجب التفكير فيه على أوسع وأعمق نطاق، هو كيفية الارتقاء بما هو قائم من أشكال الاعتراض والاصطدام بالمشروع الأميركي، إلى مستوى المشروع المقاوم والمواجه لمشروع الهيمنة الأميركي وتابعه المشروع العدواني الصهيوني. وبديهي القول إن ما هو قائم من أشكال وأدوات الاعتراض، إنما هي أشكال محددة وقاصرة ولا تنتظم في مشروع تحرير ونهوض بأوسع مشاركة وبأفق ديموقراطي واعد.
وينطبق ذلك على لبنان وعلى قوى الاعتراض فيه. وهذه القوى، على تنوع أشكال اعتراضها، تمتلك ثروة حقيقية من المقاومة والانتصارات. وهي مدعوة بسبب ما تقدم من جذرية الاندفاعة العدوانية الأميركية، وبسبب من شدة ارتباط فريق السلطة بهذه الاندفاعة، مدعوة، إلى صياغة اعتراضها عبر مشروع تحرري إصلاحي ديموقراطي. فمن دون ذلك تبقى الجهود، وحتى الانتصارات العظيمة التي هي بحجم الانتصار الآخير على العدوان الأميركي ــ الإسرائيلي، رهينة القيود التي صاغها المستعمرون القدماء، ويعمل الغزاة والطامعون الجدد، لتحويلها إلى مباضع تقطع جسدنا أشلاء وأشلاء!
* نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني