سمير أمين *
ليس لدى الشكل الحالي للعولمة سوى القليل لتقديمه للغالبية العظمى من شعوب جنوب الكرة الأرضية: هي عولمة تخدم مصالح قلّة من الناس، وتتسبّب بالمقابل بإفقار قطاعات وطبقات واسعة، وخاصّةً في المجتمعات الزراعية التي يعيش فيها ما لا يقل عن نصف سكّان الأرض.
يسرّع منطق «الربحية» على الصعيد العالمي، من عملية تدمير العناصر البيئية الضرورية لإعادة إنتاج الحياة على كوكبنا. ومن خلال خصخصة قطاعات «الخدمات العامة»، يقضم هذا المنطق الحقوق الاجتماعية للطبقات الشعبية. من خلال هذه الحقيقة الدامغة، يجب اعتبار العولمة التي ما هي سوى المرادف العصري للنظام الرأسمالي، يجب اعتبارها بمثابة نظام رجعي مدمّر.
بيد أنّ غالبية الحركات التي تناضل ضدّ الآثار المدمّرة للنظام الرأسمالي، تنحو منحىً يبتعد عن رفض الأسس المكوّنة لهذا النظام، وهذا ما يقوّض قدراتها على اقتراح بدائل، هي في آن معاً ضرورية وممكنة. من المفترض بتلك البدائل أن تجمع ما بين دمقرطة إدارة كل أوجه الحياة الاجتماعية ــ السياسية ــ الاقتصادية ــ البيئية والعائلية من جهة، وكل التطورات التي يجب وضعها في خدمة كل المواطنين، وخاصّةً الفئات الأكثر فقراً. وعلى تلك الحلول أن تفرض احترام سيادة الدول والأمم والشعوب، بغية بناء نظام دولي متعدّد الأقطاب يستبدل «موازين القوى» بعنصر «إلزامية المفاوضات».
انطلاقاً من هذا المنظار، يجب إنشاء مؤسسات دولية بديلة من تلك التي غالباً ما تخضع للمصالح الحصرية لرأس المال المالي. عنينا بتلك، منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظّمة حلف شمال الأطلسي، وحتّى الاتّحاد الأوروبي بالشكل الذي تعمل آلياته حاليّاً.
إنّ إعادة الهيكلة الجذرية هذه تبقى عديمة الجدوى إلا إذا ما استهدفت أساساً الطموح الأميركي الجامح (المدعوم من حلفائه المركزيّين)، القائم على فرض الهيمنة العسكرية على مجموع بقاع الكرة الأرضية. يبدو الشرق الأوسط في هذا السياق، حلقة «الضربة الأولى» أميركيّاً لأسباب أربعة:
ــ تحوي هذه المنطقة الحقول النفطية الأوسع، ومن شأن السيطرة عليها أن يعطي واشنطن امتياز فرض حالة «تبعية نفطية» على كل من حلفائها (أوروبا الغربية واليابان) وخصومها (الصين).
ــ تقع هذه المنطقة في قلب العالم القديم، ما يسهّل فرض تهديد عسكري دائم على كل من روسيا والصين والهند.
ــ تعيش هذه المنطقة حالةً من الضعف والفوضى اللذين تسمحان للمعتدي أن يحرز نصراً سهلاً، على الأقل في المدى القصير.
ــ لدى الولايات المتحدة في هذه المنطقة حليف مضمون، ألا وهو إسرائيل، الدولة التي تملك السلاح النووي.
دخلت هذه المهمّة في مرحلة تنفيذية متقدّمة، فقد باتت دول فلسطين، العراق وأفغانستان ترزح تحت الاحتلال، أضف إليها دولاً مهدّدة بالتدخّل العسكري كلبنان، سوريا وايران. غير أنّ مشروع الهيمنة هذا مهدّد بالفشل ليس في العراق وأفغانستان فحسب، بل أيضاً في لبنان حيث عجز الجيش الإسرائيلي عن هزم حزب الله، علماً أنّه من أكثر الجيوش تدرّباً وتجهيزاً بفضل الجسر الجوّي العسكري الذي توفّره له الولايات المتحدة انطلاقاً من قاعدة دييغو غارسيا في المحيط الهندي. إنّ القول بضرورة منع الجمهورية الإسلامية من حيازة السلاح النووي أو تصنيعه، يجب أن يسبقه تأكيد ضرورة نزع شامل له من دون استثناء أية دولة، بدءاً بالأكثر امتلاكاً لهذا السلاح الفتّاك: روسيا والولايات المتحدة وصولاً الى الهند وباكستان وكوريا الشمالية واسرائيل (وهي دول لم توقّع على معاهدة منع الانتشار النووي).
وعلى الرغم من هذه الأجواء المتفجّرة التي ستظلّل انعقاد فعاليات المنتدى الاجتماعي العالمي في العاصمة الكينية نيروبي بين 20 و25 من كانون الثاني الجاري، لا يزال العديد من الحركات الاجتماعية بعيداً من اعتماد «الخيار الجذري» في مقاربة أزمات النظام الرأسمالي. أمّا الحجج المساقة من هؤلاء، فهي تختصر في «ضرورات الواقعية السياسية» والرغبة في عدم التقوقع في «الهيكل» اليساري المتطرّف. وفي المقلب الآخر، تبرز بعص الحركات «الأقلوية» التي تنسب إلى نفسها صفات «الطليعية» لترفض أي نقد قد يوجّه لسلوكها وأدبياتها السياسية، وذلك لتبرير سياسة «التعامي» عن التغييرات السريعة التي تطرأ على مجتمعاتنا المعاصرة.
إنّ فشل «التجربة الاشتراكية» قد أظهر الرأسمالية في عيون الكثيرين ــ وعن قصر في الرؤية طبعاً ــ منتصراً «أبدياً» وخياراً لاتاريخياً، وبتعبير آخر، أفقاً لا يمكن تجاوزه. وكنتيجة لهذه الأوهام، تحصر بعض الحركات الشعبية والاجتماعية نفسها، بأهداف نضالية «متواضعة»: الدفع نحو تراجع النيوليبرالية لكن من منطلق اقتراح بدائل تندرج تحت شعار إدارة رأسمالية بـ«وجه أكثر إنسانية»!
إنّ عدداً من المناضلين في أوروبا والولايات المتحدة خاصّةًً، لا يؤمنون بجدوى النضال داخل إطار «قومي». وبسبب شبه التماهي الحاصل بين مفهومي الأمّة والدولة، يقوم هؤلاء بتطوير استراتيجيات وأدبيات تستبدل كلّياً موضوعة سلطة الدولة، بنضال على مساحة المجتمع المدني. تبدو هذه الممارسات منتشرة بشكل واسع في أوروبا، حيث يضع العديد من المجموعات أولوية «إنقاذ أوروبا» (من الهيمنة الأميركية)، متجاهلين المعطيات التكوينية لبنية الاتحاد، التي جعلته على الشكل الذي هو عليه.
بمواجهة كل هذه التحديات، تتراجع فعالية تيار «العولمة البديلة»، بما هي مرادف لمشروع بناء «عالم آخر ممكن». هناك تيار «بديل من العولمة» يمكن وصفه بالـ«رخو»، يتبنّى مواقف شبيهة بسياسات الأحزاب البيئية في دول المركز، وشبيهة أيضاً بسياسات حركات عالمثالثية دينية وإثنية. لن تتمكّن حركة تقدمية بديلة من العولمة من النجاح فيما لو حصرت أهدافها بما هو أدنى من «تخطّي النظام الرأسمالي»، وهذا يفترض قراءةً نقدية جذرية لتجارب اليسار المعاصر.
على الرغم من الاختلافات التي تعتري هذه المروحة الواسعة المشكّلة للعمود الفقري للحركة البديلة من العولمة، يبقى التنوّع أحد أهم مصادر غنى هذه الحركة العالمية. لمواجهة مخاطر اندلاع حروب أميركية «استباقية» (لا ينفكّ مسؤولو الإدارة الأميركية عن التبشير بها)، على كل التيارات البديلة من العولمة ــ من الأكثر جذرية في الطرح، الى الأكثر «اعتدالاً» في المقاربة ــ أن توحّد جهودها: هذا هو الطريق الوحيد لبناء عالم آخر ممكن!!
(ترجمة أرنست خوري ــ عن مجلة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية ــ عدد شهر كانون الثاني 2007)
* رئيس المنتدى العالمي للبدائل