علي الشامي *
يكرّر المشهد اللبناني الحالي نمطاً من العلاقات الأهلية والسياسية درج اللبنانيون على إظهاره في كل مناسبة خلافية، وبصرف النظر عن طبيعة هذه المناسبة، فإن الاجتماع السياسي اللبناني، قام، ويقوم الآن، وحتى إشعار آخر، على اجتماع أهلي فريد من نوعه، حيث يواظب «الخاص» على مصادرة «العام» في نزوع دائم يستهدف وضع «العام»، أي الدولة أو الوطن في خدمة «الخاص، أي الطائفة، والمذهب أو المنطقة...
وقد أسهمت هذه المواظبة في إضاعة كل فرصة حقيقية لوضع الخلافات الناشبة، الطارئة أو المقيمة، في سياق سياسي صريح وموضوعي يغلب فيه العام على الخاص، بدون أن يلغي أحدهما الآخر، لكن، على الأقل، يسمح ولو مرة واحدة أو على سبيل التجربة، برؤية الخلاف السياسي خارج القيد الطائفي او المذهبي. ذلك أن رؤية كهذه تمثّل ضرورة علمية ولبنانية لفهم وتحليل الأبعاد المحلية او الخارجية لكل خلاف ذي طابع سياسي واضح. ومن دون ذلك، تغوض واقعية الخلاف في متاهات الطوائف والمذاهب، فلا تستقر على وضوح ولا تنتهي الى حلول الا بتوسّط أطراف خارجية تملك وحدها سرّ وقدرة إخراج الخلاف من متاهاته الطائفية أو المذهبية... وقد تكون الخلافات مزيجاً بين مصلحة طرف محلي وآخر خارجي، وقد تتموضع الطوائف، وهي فعلت وتفعل ذلك باستمرار، في تحالفات خارجية تتوسل مصالح داخلية، الا أنها تبقى مشدودة الى تناقضات سياسية أكثر من انشدادها الى مجرد مصلحة فئوية ضيقة. وهنا تبدو الانقسامات الطائفية او المذهبية كأنها محاولة للتستر على التناقض الفعلي في الخيارات السياسية العامة، سواء ما يتعلق منها بالسياسة الداخلية او الخارجية على حدّ سواء. وبالتالي، فإن مقاربة المشهد اللبناني الحالي لا يمكن ان تؤدي الى شيء اذا بقيت غارقة في متاهات الطوائف والمذاهب، حيث تتوارى الأهداف الحقيقية للخلافات، مع التشديد على خصوصية الاجتماع اللبناني الذي يسمح للخلافات السياسية، في بعديها الداخلي والخارجي، بأن تلبس لباس الطائفة او المذهب.
وفي هذا السياق، يندرج الحديث الرائج حالياً بشأن الانقسام المذهبي والطائفي، حيث يتقدم المذهبي على الطائفي عندما يتعلق الأمر بخلاف الاكثرية الحاكمة مع الثنائية الشيعية، وهنا يدور الخلاف على قضايا ليست ذات خصوصية مذهبية، فلا المحكمة ذات الطابع الدولي ولا سلاح المقاومة ولا الشراكة في السلطة ولا السياسة الخارجية للدولة موضوعات يمكن وقفها على منازعات مذهبية، بقدر ما هي خلافات سياسية بالدرجة الأولى، ولا يقلل من طبيعتها هذه وقوف المذاهب على طرفي نقيض في رؤية كل واحدة من هذه القضايا الخلافية. وبهذا المعنى لا يمكن اتهام أقطاب الفريق الحاكم للثنائية الشيعية بالوقوف ضد قيام المحكمة لأنهم مجرد «شيعة» يعترضون على قيام محكمة دولية تعمل لمصلحة «السنّة»، الا اذا كان معطوفاً على أثمان على الشيعة دفعها تلبية لسياسة طرف خارجي يمسك وحده بأسرار المحكمة وجدواها. كما جرت العادة، فإن هذا الطرف الخارجي توسّل دائماً تمرير قراراته وأهدافه من خلال الشروخ الأهلية المتوافرة دائماً، وإن لم تكن عميقة جعلها كذلك ودفع بها الى الذروة: إما الانصياع للمطالب أو الانفجار الأهلي. وهذا ما يحدث الآن، مرة أخرى وللأسف في لبنان.
وبناءً على ذلك، فإن الانقسام المذهبي الراهن ليس مجرد تموضع لبناني بإرادة لبنانية بقدر ما هو تعميق من الخارج للمنازعات الداخلية، ليس بهدف حلها بل بهدف استغلالها في سياق استراتيجي لا ناقة للبنان فيه ولا جمل، اللهم الا اذا كان اللبنانيون، بالفعل، قد انقسموا الى مؤيد لهذا السياق الاستراتيجي ومعارض له، واذا صحّ ذلك، وهو صحيح، فإن الانقسام المذهبي لن يكون كذلك بقدر ما يكون انقساماً سياسياً يستهدف مصالح وخيارات تتجاوز المصالح والخيارات المذهبية الضيقة. ومع ذلك، فإن الفريق الحاكم وهو الطرف الداخلي المتعدد الانتماءات الطائفية والمذهبية، بسبب تأييده الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، يلجأ، وللتورية على التحاقه بهذه الاستراتيجية، الى وضع مواقفه في نصابها المخصوص في لغة المنازعات الاهلية، فيصبح «الشيعة» هم الفريق الذي يقود التيار الآخر المعارض لهذه الاستراتيجية، رغم أنه، أي هذا التيار، أيضاً، متعدد الانتماءات الطائفية والمذهبية والمناطقية. ولم يكن التركيز على التعبئة المذهبية في وسائل إعلام هذا الفريق وفي تصريحات أقطابه ومقالات كُتّابه إلا تعبيراً عن الاختلال في موازين القوى. اذ لا يعقل صياغة خطاب مذهبي في وجه معارضة متعددة الانتماءات، الا اذا كان وسيلة لرص صفوف المذهب الذي يقود الفريق الحاكم خوفاً من فرط عقده وانكشاف أمر أكثرية لبنانية معترضة على سياسة هذا الفريق وعلى الاستراتيجية الاميركية الملتحق بها.
وللمزيد من الوضوح، نشير الى أن الاتقسام المذهبي لم يبدأ بشأن المحكمة ذات الطابع الدولي او سلاح المقاومة، مثلاً، لأنهما يرجّحان كفة «السنّة» على غيرهم، بل بدأ مباشرة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري. فمنذ اليوم الأول كان واضحاً أن عملية الاغتيال تستهدف نقل «السنّة» من موقع الى آخر. من موقع الفئة الأقل لجوءاً الى الطائفية والمذهبية، بسبب وسطيتها وطابعها المديني الاقتصادي والاجتماعي، الى عصبية مذهبية تلتئم حول خسارة رمزها وزعيمها، تماماً مثلما فعل تغييب الإمام موسى الصدر واختطافه في ليبيا، بالنسبة إلى الشيعة.
ومن موقع الفئة الأكثر عروبية الى الفئة الأكثر عداءً للعروبة من بوابتها السورية.
وبعد الانتخابات وتأليف الحكومة، استقرّت المنازعات على سويّة سياسية عنوانها «الشراكة في القرار والتوافق على سياسة خارجية تحمي لبنان من الصراعات الإقليمية والدولية». وكان بإمكان هذه المنازعات ان تبقى بمنأى عن الانقسام المذهبي، إذ إنّها في جوهرها، سياسية لا طائفية ومذهبية. فالشراكة عصب التوافق اللنباني كما أقرّه الطائف والدستور وكما تشرعه موازين القوى الداخلية. والسياسية الخارجية تنأى بلبنان عن وضعيته السابقة كساحة تصفية حسابات خارجية، وإن كانت لا تمنع ظهور خلافات بشأن طبيعة التحالفات الخارجية حيث يمكن الاختيار بين الأكثر نفعاً والأكثر ضرراً بدون انفجار أهلي او انقسام فئوي يغذيه ويؤدي اليه. بيد أن تجاوز الفريق الحاكم لمبدأ الشراكة باتجاه المزيد من الاستئثار بالسلطة والقرار، والدفع باتجاه يوصل لبنان الى أحضان المحور الذي تقوده أميركا في المنطقة، كانا وراء الأزمة الحالية لا أي شيء آخر.
ويبدو أن خطاب البحث عن السلطة يختلف عن خطاب السلطة نفسها بعد الإمساك بمفاصلها. أي إن الانقسام المذهبي الراهن وغير المسبوق في تاريخ العلاقات بين السنة والشيعة في لبنان يبدو اكبر من الذرائع الدافعة اليه، هذا اذا لم تكن الذرائع الشائعة في الإعلام كافية لقيامه أساساً. وعليه ينبغي البحث عن سياق آخر لهذا الانقسام، غير سياق المحكمة الممجوج والمصطنع. فالـــــــــــــفريق الحاكم ينظم صفوفه بانقسام مذهبي ضد معارضة غير مذهبية او طائفية، ولا يستقيم هذا الأمر إلا على قاعدة التورية حيث يمكن الشحن المذهبي أن يقود الى خيارين: إما الاعتراف بالغلبة الداخلية أو الفتنة المذهبية. بيد أن الأمر أصبح مكشوفاً وإن كان خطر الانفجار مجدّداً لا يزال قائماً. فالغــــــــــلبة إذ تكرّس نصاب التهميش للطرف المسيحي الأكثر تمثيلاً، تنقلب على الشراكة مع النصاب الشيعي الأكثر تمثيلاً، ما يفتح المنازعات الأهلية على جاري عادتها وصولاً الى إعادة موضعتها بالصيغة التقليدية: لا غالب ولا مغلوب، هذه الصيغة هي ما يهرب منها الفريق الباحث عن الغلبة في بلد تستحيل فيه الغــــــلبة المطلوبة من جانب الطرف الخارجي الذي يريد موضعة لبـــــــــنان في استراتيجية لا تُقرّها، وتوافق عليها اطراف اخرى، خارجية مؤثرة، وداخلية تجمع في صفوفها أكتريتين وازنتــــــــين وتيارات سياسية متعددة الانتماءات. وبالتالي، فلا معنى للانقسام المذهبي سوى النفخ في خيار سياسي سلطوي على حساب الشراكة، وفي خيار خارجي لا يستقيم مع أكثرية شعبية وسياسية ترفضه وتناهضه. فلا يبقى للانقسام معنى غير الارتكاز عليه للحيلولة دون قيام معارضة فاعلة داخل مذهب الفريق الحاكم تهدّد بانكشافه كفريق سياسي بالدرجة الأولى، وتسقط، بالتالي، من يديه ورقة الحصانة المذهبية وقـــــــدرته على استخدامها كفزّاعة الحرب الأهلية، الأمر الذي يعــــوّل عليه الطرف الخارجي ويعمل من اجله جهاراً ونهاراً. وبين تنــــــــــظيف البيت «المذهبي» والدعم الخارجي المريب، يبدو أن متاهـــــــــات الانقسام المذهبي لن تلبث أن تواجه النافخين فـــــــــيه وتقذفهم نحو «مجهول» جديد قد يكون خطيراً جداً وقد يكون الانقسام المذهبي بلا جدوى بعد حين.
*باحث وأستاذ جامعي