محمد شقير *
لقد كان خروج الإمام الحسين(ع) حدثاً لافتاً في التاريخ السياسي للإسلام بما يحمل من دلالات لا تقف عند حدود السرد التاريخي لحدث الثورة، بل لما تختزنه تلك الدلالات من إمكانية لفهم إشكالية السلطة والثورة في المنظور الإسلامي من حيث طبيعة العلاقة بينهما وعلاقة كل منهما بمفهوم المشروعية الإسلامي.
لقد خرج الإمام الحسين(ع) على السلطة الأموية آنذاك ورفض البيعة ليكون هذا الرفض بمثابة عدم اعتراف بمشروعية السلطة حيث لا مشروعية لمنطق الغلبة ولا مشروعية لمنطق الواقع المفروض بناء على رؤية ترى ان سلطة المشروعية أقوى من السلطة نفسها، وأن أية سلطة مهما تغلبت لا بدّّ لها في نهاية المطاف من أن تخضع لمنظومة من المفاهيم هي التي تمنحها أو تسلبها صفة المشروعية، وبالتالي حقها في الاستمرار في اجتماعها السياسي.
إن السلطة يومذاك قد انتهكت المعايير الإسلامية التي كانت تقوم عليها وترتكز عليها صفة المشروعية، وبالتالي لم يعد ممكناً منح أي لون من ألوان المشروعية لتلك السلطة التي أصبحت فاقدة لمشروعيتها الدينية والسياسية مع أن السلطة الأموية سعت جاهدة لإيجاد نظرية في المشروعية ترتكز على وراثة الدم ثم على منطق واقع الأمر والأمر الواقع علّها تستطيع ان تقدم رؤية في المشروعية السياسية تبرر وجودها ولاحقاً استمرارها. لقد كان الإمام الحسين(ع) يرى عدم مشروعية السلطة، وكان التصريح بذلك بمثابة إعطاء مشروعية لإعدام السلطة، أي إن عدم المشروعية يساوي مشروعية الإعدام وأي حكم بإعدام السلطة سوف يؤدي إلى ان تردّ عليه بمنطقها، أي المنطق الذي يسوّغ الإعدام والقتل، عندما ترى السلطة في معركة المشروعية معركة حياة أو موت، بقاء أو زوال، وبالتالي لا بدّّ من ان تستنفر جميع إمكانياتها لتحافظ على استمرارها لأنها إذا لم تستطع أن تحفظ لنفسها بقاء المشروعية فإنها في الحد الأدنى تستطيع من خلال منطق الغلبة أن تحفظ لنفهسا مشروعية البقاء، أي تصبح مشروعية البقاء بديلاً من بقاء المشروعية.
لقد رفض الإمام الحسين(ع) البيعة للسلطة الأموية، ورفض البيعة هو رفض للمشروعية، ورفض المشروعية هو رفض للسلطة، الذي يعني بالتالي العمل على تغييرها واللجوء إلى خيار الثورة لأن ضرورة التغيير والإصلاح إذا لم تكن ممكنة من خلال غلبة المنطق فلا بدّّ من منطق الغلبة، أي منطق الثورة الذي يقول إن التغيير باليد والسيف يصبح ضرورياً عندما يعجز النصح ويُقمع الرأي ولا يبقى من دور للعقل والمنطق والكلمة السواء.
إن فلسفة السلطة في الرؤية الإسلامية تكمن في منظومة الوظائف التي تقوم بها في ما يتصل بالإصلاح والتنمية والعدل... وهي كلها مقيّدة بعدم إساءة توظيف السلطة. أما إذا حصل وتسرّب الخلل فهو إن دلّ على أن ذاك الخلل يكمن في بنية السلطة وفي شروطها الذاتية فالأمر عندئذ يحتاج إلى تغيير جذري وهنا تأتي جدلية المشروعية والثورة.
إن مبرر وجود السلطة إذاً هو في الوظائف التي تخدم مصالح مجتمعها ونموه ورقيه، فإذا ما انقلبت السلطة على وظائفها فهي تنقلب على مبرر وجودها، بل قد تصبح عالة على مجتمعها إذ تستبدل منظومة الوظائف التي تخدم مصالح اجتماعها السياسي بمنظومة أخرى من الوظائف التي تتماهى ومصالح العائلة أو الحاشية أو الفئة الحاكمة.
هنا تكمن ثورة الحسين(ع). إنه يريد أن يقضي على أية عبودية سياسية تجعل من السلطة صنماً سياسياً يضاهي أصنام الجاهلية الجهلاء، لأن الاجتماع السياسي في الرؤية الإسلامية ليس اجتماع عبودية بل هو اجتماع وظائف وواجبات وحقوق، وإذا ما خرجت السلطة ــ أية سلطة ــ عن وظائفها وأخلّت بواجباتها وأضرّت بحقوق الناس فعندها تُخيّر بين أمرين: الكلمة أو الثورة، أي إن التقويم لا بدّّ منه، يبقى اختيار الوسيلة، فإن صاب الكلام يوماً فما إلى قرع الأسنة سبيل، وإن خاب الكلام سهماً فما من قرع الأسنة بديل.
إن ثورة الإمام الحسين(ع) دعوة إلى تغيير السلطة التي تفتقر إلى مبرر استمرارها، حيث لا يمكن القبول بمنطق الجمود ولا يمكن الركون إلى ثقافة الركود ولا إلى فقه القعود.
لم يكن الحسين(ع) يطمح إلى سلطة ــ بما هي سلطة ــ ولم تكن تغريه الإمارة، وإن من يقرأ بيانات الثورة يعرف أنه كان يذهب بنظره أبعد من ذلك، لقد خرج لطلب الإصلاح (الإصلاح في جميع ميادينه) يريد أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر (بما فيه المعروف السياسي والمنكر السياسي)، لقد أضحت السلطة عائقاً أمام ذلك كله، لذا كان لا بدّ من تغيير السلطة نفسها وصولاً إلى ما هو أبعد إلى الهدف والغاية. لقد ادّعت الكوفة أنها وفرت للحسين(ع) وسيلة التغيير، فكان لا بدّ من الخروج إليها وإقامة الحجة عليها، وإن كان الحسين(ع) يعلم أن فعل الثورة سوف ينتهي بالشهادة، بل الأصح أن نقول إنه سوف يبدأ بالشهادة. لقد استشرت ثقافة الركون وساد فقه السكون وحلّت ثقافة التبرير وعام فقه التحذير ولم يعد قادراً على إنقاذ إرادة الأمة وإحياء وعيها وإصلاح ثقافتها إلا حدث كحدث الشهادة، نعم لقد أراد الحسين الشهادة، هنا لم تعد الشهادة فعل موت. إنها فعل صلاح وإصلاح عندما تضحي الشهادة مدخلاً وحيداً وفريداً لهدم السلطة، السلطة التي تمارس الفساد والإفساد، والتي توغل في الدين تحريفاً وتجويفاً، لذا كان لا بدّ من شهادة الحسين عندما تصبح هذه الشهادة مرادفاً لفعل الثورة وباباً إليها.
إن وعي الثورة ينطلق من أن مبرر السلطة يكمن في واجباتها ووظائفها، فإن أخلّت بها فإن فقه السلطة في رؤية الحسين(ع) هو في كنس تلك السلطة بفعل الثـــــورة وإن تطلّب الأمر حدث الشهادة.
* استاذ جامعي وحوزوي