حسن جابر *
في الحديث عن المشروعية السياسية لا نتوخى المقاربة القانونية المألوفة التي تحاول مدّ الوشائج بين الجذر الدستوري والتعبيرات القانونية، ولا نسعى الى صياغة رؤية فقهية محددة ترتسم في نهايتها مشروعية مجردة، وقد خاض، في السابق، الكثير من المذاهب الفقهية في المسألة وصل ببعضها القول بحصرية «السلطان بالسيف».
وإنما يتجه منحى الكلام، هنا، وجهة تاريخية بحتة، بمعنى محاولة الإفادة من معطى التجربة البشرية عامة والإسلامية خاصة، في مجال السلطة، للخروج بتصور علمي دقيق، وعندما نقول علمياً لا نقصد التعسف في إطلاق الأحكام، وإنما الدلالة على المنهج الذي استُخدم للخلوص الى هذه النتيجة.
في التجربة السياسية الاسلامية، تكاد مراحلها ومفردات ممارساتها، في الاطار السلطاني، تصدح بالحقيقة. فالأمويون بدءاً بمعاوية لم تثبت أو تتراخى سلطة أحد منهم إلا على ايقاع حوافر الخيول وأصوات قعقعة السلاح، والمفارقة ان أولئك كانوا يدركون بحدسهم وأحياناً بحسهم تلك الحقيقة فيقحمون أنفسهم في معارك أو يستفيدون من إسهاماتهم في مجال تعزيز واقع سياسي أو خلق آخر جديد. والطريف في الأمر أن القوة الجارفة للمشروعية السياسية التي تبنيها التجربة القتالية مع الأعداء، قادرة على محو تاريخ كامل لشخص واستبداله بآخر لا يلابسه عيب أو تشوبه شائبة، كل ذلك بفضل المصهر الذي يخرج شخصية القائد متحررة من كل دنس، حتى وإن كان ذلك الدنس هو اغتصاب السلطة.
فالجهاد، الذي يُشعر الناس بنبض الحياة، لديه كيمياء عالية التركيز تمكّنه من شد العصب الوطني والديني، فيضحي الكل، في لحظة ما، كتلة مشاعر وأحاسيس يستحيل تشكلها في ظروف مغايرة، فتتراجع التناقضات الثانوية والتباينات التفصيلية المختلفة لتتقدم المعركة ومنطقها وحساباتها والآثار التي ستترتب عليها، فتفيض النفس بالعطاء ويرخص كل شيء تجاهها ويذهب الحرص الذي كان يحجب العطاء ويتقدم، بدلاً منه، كل أشكال البذل. وبإزاء هذا الانقلاب الوجداني تتوارى المطامع السياسية خلف مناخات التعبئة العامة، ويتحول القائد الى رمز للقوة والوحدة والحياة والوجود، فيتحصّن موقعه بما يستحيل اختراقه شعبياً أو سياسياً، وخصوصاً اذا توّجت المعركة بإنجازات عسكرية مهمة، عندها يرتفع القائد الى الموقع الذي لا تناله سهام المشككين ولا أحلام المتربّصين ويصبح بنظر الناس هو المتعيّن لإدارة الحكم والسلطة.
والشرعية السياسية التي يكتسبها القائد هي أقوى وأدوم من فترة حكمه، فلديها من الاحتياط والزخم ما يفيض عن سنوات حياته، فتنشر هالتها وسطوتها الى الابن وأحياناً الحفيد، وقد يأتي من الأبناء من يجدد الروح في تلك المشروعية فيطول الحكم وقد يحصل العكس فيتراخى عصب الأمة عن تأييد الأبناء.
ما نسوقه، هنا، عن العلاقة المتينة بين الجهاد والمشروعية السياسية، ليس انفعالاً بواقع معين نعيشه، فالتاريخ الاسلامي مليء حتى التخمة بالشواهد، وقد سبق أن أوردنا التجربة الأموية، ولا تخرج التجربة العباسية في عصريها الأولين عن الاتجاه العام، وعندما تراخى العباسيون إزاء أعدائهم الخارجيين، وخسر الأحفاد بقية المشروعية المتوارثة، جاء من ملأ الفراغ من خارج الأسرة، كالبويهيين ومن ثم السلاجقة.
وعندما استقال السلاجقة من مهمات الجهاد ضد الصليبيين والروم وغيرهم لم يقووا على الصمود في السلطة أمام من تقدم الصفوف وسجل انتصارات على العدو المشترك، فاكتسب نور الدين زنكي ومن بعده صلاح الدين الأيوبي، وكلاهما ليس عربياً، ومع ذلك رفعت الأمة من شأنهما وذلت الرقاب لقيادتهما وتغاضت عن التوريث، على رغم ما يحمله هذا الانتقال التلقائي للسلطة من مآس قد تصل الى مستوى الكارثة، كما كانت الحال مع السلطان الكامل الأيوبي الذي فرّط بالقدس، وهو الإنجاز الذي كان صلاح الدين يفخر به، أو كما حصل مع آخر خليفة عباسي لدى محاصرة المغول لعاصمته حيث كان كل تصرف منه في تلك الظروف الصعبة يشي بخفته واستهتاره بمصائر الأمة والناس. فالتوريث السياسي الذي سنّه معاوية على قاعدة المشروعية الجهادية، جلب للأمة الإخفاق تلو الإخفاق.
ومع تحوّل بقية الأسرة الأيوبية عن الجهاد واكتفائها بما ورثته من المجد، قام من بعث في الأمة الروح من جديد، في لحظة تاريخية لا تساويها خطورة المرحلة التي نعيشها اليوم، على رغم قساوتها، قام قائدان كبيران ينتميان الى فئة المماليك الذين استخدمهم السلاطين، في السابق، لضرب أعداء الداخل والخارج، وكسرا صمت الخوف وخرجا شاهرين سيفهما على المغول وحققا ذلك الانتصار التاريخي في «عين جالوت»، الذي فتح من جديد طريق السلطة للقيادة المنتصرة وأبنائها وأحفادها على قاعدة المشروعية السياسية التي لا تنتزع إلا بالجهاد، وعندما أخفق الأحفاد من جديد في تجديد المشروعية وتخلوا عن سيرة السلف في قتال الأعداء، جاء من جديد مَن تولى المهمة وتابع المسيرة فكان الانتقال المسوّغ للسلطة على يد العثمانيين الأتراك الذين دام حكمهم ما يقرب من أربعة قرون من دون انقطاع.
وحين خبت حيوية العثمانيين وكفّوا عن كونهم مدافعين عن الثغور وانكفأوا الى الداخل يتناوب الأبناء والأحفاد السلطة من دون مشاركة لأحد أو استئذان من الناس الذين قتلوا في ميادين الحرب، ذوت السلطة ونخر عظمها الوهن حتى صدق فيها قول القيصر الروسي نقولا الثاني «إنها الرجل المريض»، وهذا لم يكن شاذاً من المآل، وإنما سنّة في الاجتماع يمكننا التقاط أبجديتها من كل تجربة سلفت. فالحيوية الجهادية التي تشع روحها في جسم الأمة تطلق طاقة تغيير كبيرة واستعداد غير معهود للعطاء والتضحية والتغيير، ويكتسب القائد، فيها وبها، ثقة الجمهور فيمحض الحب والطاعة، وهو من جهته يكون أمام ابتلاء أو اختبار التثمير الإيجابي لهذه المشاعر، فإذا نجح في كسر الجاذب الأنوي وارتقى الى مستوى الحدث والتحول التاريخي، يكون قد أعطى دفعاً جديداً لتلك القوة، وهذا لا يتحقق إلا بمشاركة الناس والاستماع لنبضهم وشروطهم، أما إذا فشل في كسر الجاذب الأنوي وسقط في هوة الانخداع بالفرادة وعمل على اختزال الأمة بنفسه وذريته من بعده، فهو لا محالة سيكون مساهماً في تبديد الطاقة حتى التلاشي، التي ليس من السهل إعادة بنائها أو توليدها، فهي ضنينة بشروطها واستثناءاتها، والفرص تُنتهز ولا تُفوّت. ونكاد نجزم ان مجمل الحيويات التي أطلقها قادة وكتل رائدة من المجاهدين منذ العصر الأموي الى اليوم قد أُخمدت وسُحبت الديناميات من مضمونها عندما جُيّرت بكاملها لمصلحة القائد وأسرته، وكأن قدر الأوطان «أن تعدّها أجيال بأكملها، لينعم بها رجل واحد»، على حد تعبير أحلام مستغانمي في روايتها «ذاكرة الجسد».
والمشروعية لا تقف عند حدود السياسة، بل تتخطاها الى العقيدة والفكر والثقافة، فقوة المقابسة، التي تنشأ على حرارة الجهاد، تكاد تكون قاهرة الى حدود عدم القدرة على منع إشعاعاتها، والمعطيات التاريخية تقطع بأن كل الديانات والمذاهب قد انتشرت عبر القتال ومن خلال السيف، هكذا انتشرت المسيحية في أوروبا وأميركا، والأمر عينه يمكن سوقه بالنسبة إلى المسلمين ومذاهبهم، وهذه الحقيقة من المفارقات البارزة التي قلما يلتفت إليها المشتغلون باللاهوت وعلم الكلام وكأن قوة الحجة هي التي حسمت الأكثريات والأقليات الدينية والمذهبية، وهو ما يفتح كوة في جدار العصبيات التي تشتد وتتراخى على وقع الصراع السياسي والحساسيات السلطوية ليس إلا، وما التستر بالكلام واللاهوت ومقولات الدفاع عن الدين والمذاهب إلا مسوّغات موهومة تخفي جوهر الصراع وحقيقته الذي هو السياسة والسياسة فقط.
* أستاذ جامعي