رياض صوما *
شهد العام الماضي وصول استراتيجية بوش الى مأزق لم تعد حتى الادارة الأميركية نفسها قادرة على نفيه. لكنها كانت تستمر بالرهان على أن أخصامها ليسوا أفضل حالاً. لقد تكبدت المنطقة ثمناً باهظاً، وخسائر مادية وبشرية بالغة، قبل وصول تلك الاستراتيجية الى مأزقها الراهن. تحملت الدول التي عدّتها خطة المحافظين الجدد مفتاحاً لتغيير وجه المنطقة، وفي مقدمها العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان والسودان، العبء الأكبر، وانضم الصومال أخيراً الى اللائحة.: ولا يبدو أن ذلك سيتغير في العام الجاري، ما دام بوش قادراً على فرض رأيه على الشعب الأميركي، وعلى حلفائه. ستتابع أفغانستان نزفها. وسيوغل العراق في حربه بوجهيها، الوطني والمذهبي. وستعاني الوحدة الوطنية الفلسطينية المزيد من التحديات الصعبة. وستتواصل فصول أزمات السودان، غرباً وجنوباً وشرقاً، بتحريض أميركي أكيد. وستختلق إثيوبيا كل الحجج الممكنة لإدامة تدخلها، المجاز أميركياً، في الصومال. ولن يكون ذلك غريباً، ما دام حسني مبارك، رئيس أكبر دولة عربية، يعلن أنه يتفهم الغزو الإثيوبي، وقد سبق له أن تفهّم كل الغزوات التي تعرضت لها المنطقة العربية والاسلامية. وسيتابع لبنان حربه الأهلية الفاترة، ما دامت قوى آذار تحظى بدعم «المجتمع الدولي». وربما ساءت الأمور أكثر، فقد سبق لملك الأردن «المطلع»، أن تنبأ للمنطقة بتفاقم ثلاثة حروب أهلية على الأقل، وتحديداً في العراق وفلسطين ولبنان؟ أمّا وزير الخارجية الايراني المعروف بالجدية والتحفظ، فقد أعرب عن قلقه من دخول المنطقة، في حال تطبيق ما دعاه بوش الاستراتيجية الأميركية الجديدة، عقوداً من الحروب المتواصلة. وكذلك غالبية المحللين السياسيين، الذين يتوقعون أن تأخذ الأحداث هذا الاتجاه. وكلهم يرون أن جورج بوش وإدارته، يخططون لقفزة خطيرة، في محاولة هروب الى الأمام، لترميم هيبة الردع الاميركية والاسرائيلية، بعد النكسات الكبيرة التي تعرضت لها خلال العام السابق. وسيقدمون عليها، سواء من أجل محاولة تحقيق بعض ما لم يتحقق من الأهداف المرسومة سابقاً، أو من أجل تحسين توازن القوى قبل الدخول في مفاوضات جدية مع الأطراف الاقليمية والدولية المعنية. وقد بدأ عملياً الحشد العسكري في الخليج، وفي ميدان المعركة العراقي، حيث يجري دفع المزيد من حاملات الطائرات، والمزيد من القوات. وهذا يذكّر بمسار التورط السابق في فييتنام. يحصل ذلك، رغم رفض الكونغرس «الديموقراطي»، ورغم استمرار تدهور شعبية بوش، في عناد قل نظيره. ويبرر بوش اصراره بخوفه مما سيلحق من ضرر بالمصالح الاستراتيجية الأميركية، في حال الفشل، وقد ناشد الكونغرس انطلاقاً من ذلك، منح خطته الجديدة فرصة للنجاح. لكن أخصامه يردون بأن هذه المصالح ستتعرض لأذى أكبر، في حال فشل الخطة الجديدة، وهذا ما يتوقعونه. رهان بوش غير المعلن ، يتركز على تحسين الوضع، من خلال الجمع بين المزيد من الضغط والتهويل العسكري من جهة، والمزيد من الجهد السياسي المركز على استغلال تناقضات أخصامه. ولا ينسى أنه منذور لرسالة لا يدرك أبعادها غيره، ولا يتحمل اعباءها. ألم يقل منذ فترة: «قد أضطر لأخذ قرارات لا يجرؤ غيري على اتخاذها». لذا باتت الأسئلة المطروحة: هل بدأ تنفيذ هذه القرارات؟ وهل تصل الى حد الاصطدام بإيران؟ أم يكتفي بوش بالتهويل والتحرش؟ هل يضبط ايقاع العنف الذي أطلقه على امتداد المنطقة، أم يدفعه الى حدوده القصوى؟ إلخ... وتزداد خطورة الاحتمالات، عندما نأخذ بعين الاعتبار، ضيق الوقت المتاح لتنفيذ «القرارات المشار اليها». فهذا هو العام الأخير قبل عام الانتخابات الرئاسية، مما سيدفعه لاستعجال حرق أوراقه الأخيرة. هو يدرك ذلك، وكل الأطراف الرئيسية المشاركة في الصراع تدركه بدورها، وسيتصرف الجميع على هذا الأساس، وهذا سيدفع الصراع الى مستويات جديدة. وقد أسرعت وزيرة خارجيته الآنسة غوندي خلال زيارتها الأخيرة الى المنطقة، لمباشرة تحضير الأرض لتنفيذ خطة بوش الجديدة وإبلاغ الأتباع «المعتدلين»، بالعربي الفصيح، أمر العمليات. فشدت من عزيمتهم، وكررت على مسامعهم عن قرب، ما كانوا قد سمعوه عبر وسائل الإعلام، ومفاده أن بوش لن يسقط وحده، اذا فشلت الخطة الموعودة. وكانت قوة اقناعها حاسمة، عندما لفتت أنظارهم الى الرؤوس التي تتدحرج في واشنطن والقدس المحتلة. فتحوّل «معتدلو المنطقة» فجأة ، وهم ممن لم يعرف عنهم نجاحهم حتى في صناعة ابرة خياطة، الى أصحاب مشاريع نووية. لكن هذا الجانب الكاريكاتوري من المشهد، لا يلغي جانبه المأسوي. فاقتناعهم بوجهة نظر الآنسة غوندي، بشأن ضرورة التضامن مع ادارة بوش، لا يعني سوى دفع المنطقة سريعاً نحو المزيد من العنف والفوضى. أما الروس من جهتهم، فيراقبون المشهد ويعلمون حراجة وضع جورج بوش الذي يخوض امتحانه الأخير هذا العام. لكنهم ليسوا مرعوبين «كمعتدلي العرب»، بل يجدون أمامهم فرصة قد لا تتكرر، لاستعادة قدر من النفوذ الذي فقدوه، سواء في مجالهم الحيوي السوفياتي، أو في الشرق الأوسط الكبير، وصادره الأميركيون واستولوا عليه بالتآمر أو بالقوة. لذا نراهم يزيدون من دعمهم الاقتصادي والسياسي والعسكري لإيران سوريا وحلفائهما، رغم احتجاجات الاميركيين والاسرائيليين، المنزعجين من عودة الروس للوقوف على أقدامهم واستعادة الدور العالمي الذي يستحقونه. أما الأوروبيون فيدركون بدورهم أن ادارة جورج بوش تخوض آخر معاركها الخاسرة، ويشاركون النظام الرسمي العربي خوفه من الفشل الأميركي، لكنهم يتصرفون بشكل مختلف، فهم يمهّدون لاستعادة المسافة التي كانت بينهم وبينها غداة غزو العراق. وليست الاتصالات التي يجرونها مع دمشق وطهران، رغم النفي أحياناً، سوى إشارات أولية إلى ذلك. الحكومة العراقية والسلطة الفلسطينية كذلك، تقدّران ضيق الفترة المتاحة لبوش من أجل استعادة الصدقية، وهما من بين قلة من حلفاء واشنطن العرب الذين بدأوا يتصرفون وفق ذلك، ولا يريدون ربط مصيرهم كلياً به. ويبدو أن زيارتي الرئيسين العراقي والفلسطيني، الطالباني وأبو مازن الأخيرتين لسوريا، عكستا رغبتهما في حفظ خط الرجعة، وإن ادرجهما البعض في سياق محاولات أميركية غير مباشرة لجس النبض السوري بشأن الملفات المشتعلة في المنطقة. ويمكن وضع زيارة بندر بن سلطان الى طهران في اطار مشابه، حتى لو جاءت في مجال السعي لمعالجة الأزمة اللبنانية الملتهبة. أما ايران، وهي تكاد تكون الوحيدة من دول المنطقة، باستثناء اسرائيل، التي تنهج سياسة تستحق وصفها بالاستراتيجية، فتعرف مدى ضغط عامل الوقت على ادارة بوش، وسوف تعمل على الاستفادة من ذلك، في مختلف ساحات الصراع، وأهمها الساحة العراقية. وقد تجد أن مهادنة شيعة العراق للاحتلال الأميركي، قد أدى غرضه وقد حان الوقت لتغيير التكتيك، وأنه بات من الأنسب تشجيعهم على الانتقال الى مرحلة مقاومته وإرباكه. ان الاسراع في ذلك سيساهم في إفشال استراتيجية بوش الجديدة، بما فيها احتمال القيام بعدوان عليها. ان غياب صدام حسين بالشكل الذي تم فيه، ألحق بعض الضرر بفرص توسيع التحالفات الايرانية في وسط أهل السنة، الا أنه في المقابل أزال عاملاً من العوامل التي سهّلت للبعض دفع شيعة العراق إلى مهادنة الاحتلال أو التعاون معه. أما الآن، فلم يعد هناك من مبرر للقول بأن الاصطدام بالاميركيين قد يعيد إحياء النظام السابق. بل بات الطريق الأنسب لاستعادة وحدة العراق، عبر وحدة رافضي الاحتلال شيعة وسنة، وإسقاط محاولة توحيده بقيادة عملاء الاحتلال، شيعة وسنة. فهل يكون تهجم بوش الأخير على «الارهاب الشيعي»، وقد ساواه بإرهاب القاعدة، وكتابة مقتدى الصدر وصيته، وتأكيد السيد حسن نصر الله مجدداً دعمه للمقاومة العراقية، القادرة وحدها حسب قوله، على تحرير العراق وتوحيده، والعملية النوعية التي جرت أخيراً في كربلاء، إشارات إلى تعزيز الاتجاه الشيعي العراقي المقاوم؟ اذا صح ذلك، فإنه يعني بالتأكيد اعلان سقوط جورج بوش المبرم في امتحانه الأخير هذا العام؟ اننا ننتظر.
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني