الشيخ هشام خليفة *
التسامح في الإسلام يشكل الأصل الموضوعي لهذا الدين، وهو محور حركته بين الناس جميعاً، وهو مبدأ عظيم من مبادئه يرتكز على المسلمات الأخلاقية فيه، وحيثما وجد هذا المبدأ وجدنا التفكير المستقيم والسلوك القويم والايمان الكامل، فإننا لا نجد مسلماً يملك نفسية سليمة وسلوكاً مستقيماً إلا وهو متسامح بكل تأكيد. فالتسامح هو الأداة المهمة في نشر الدعوة وإقبال الناس على دين الله تعالى، وهو أيضاً الذي يكفل الحرية بكل أبعادها وأنواعها للإنسان، وهو الذي يكفل ويضمن سلامة العيش المشترك، الذي يدعو إليه الاسلام بين أتباعه وبين الأمم والشعوب الأخرى، ولا تكاد تمر مناسبة حضارية إلا ونجد الإسلام يدعو للسلم الاجتماعي ويرغب في السلام بين الناس لدرجة انه ذكر السلم ومشتقاته في القرآن الكريم في مئة وثمان وثلاثين آية. وبالمقابل فإن الغلو والتشدد في الدين هو خروج عن روح الدين وحدوده، ويكون بسبب التصور الفاسد، والمعلومات المغلوطة، أو بسبب الكيد للدين والمكر به، ودائماً ما يصحب الغلو جهل وتعصب وهوى وحقد وأحكام غير شرعية تنتهي بصاحبها الى زرع العداوة والبغضاء والتقاتل بين الناس، يقول ابن القيم: «الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل الى الجور، وعن الرحمة الى ضدها، وعن المصلحة الى المفسدة، وعن الحكمة الى العبث، فليست من شريعة الإسلام وإن أدخلت فيه بالتأويل». فالإسلام يدعو أتباعه للانفتاح الفكري والحواري على جميع الحضارات وعلى كل الأمم والشعوب، يقول الله تعالى: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» فكان من أهم خصائص ديننا طابع الاعتدال وميزة الوسطية ومنهج التسامح، وهذا لا شك مناقض تماماً لكل إسراف وشطط ومغاير لكل غلو وتطرف، وبعيد عن كل مشاحنة وتباغض.
فمن خلال استقرائنا لمجمل التوجيهات القرآنية والنبوية نستطيع ان نستخلص ثوابت إيمانية لا يجوز لأي مسلم أو لأي مجموعة إسلامية ان تخالفها أو ان تعمل بنقيضها وإلا فإنها تكون بذلك قد حكمت على نفسها بالانطوائية التي قد تصل الى التطرف ورفض الآخر، وبالانعزالية التي قد تؤدي الى التشدد، وبالأنانية الفكرية التي قد توصل الى التحجّر، إذ إنه لا يحق لأحد مصادرة الدين والإيمان لنفسه أو لفئته فقط ونزعه عن بقية الأمة الإسلامية فيتهم الجميع بالكفر أو بالضلال ويحتكر لنفسه الإيمان والإسلام.
فالإسلام ومنذ اللحظة الأولى لظهوره لا يعرف الاعتداء ولا الظلم ولا الإرهاب، بل كان دائماً يقف موقف الحماية والدفاع عن أتباعه بل عن سلامة الإنسان وعن سلامة عقله وحياته وجسده وحاله وهذا شأن الإسلام كدين اختاره الله تعالى ديناً خاتماً لكل الإنسانية ولجميع أفراد الجنس البشري.
وإن تراجع مبدأ التسامح بين المسلمين بالذات يؤسس لمجموعة من الآثار السلبية القاتلة والمدمرة والمهلكة للأمة، منها على سبيل المثال:
1 ــ هلاك الأمة وفشلها في مواجهة الأزمات وضعف قوتها، يقول الله تعالى: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم». وقال رسول الله (صلعم): «ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا».
2 ــ سبب لنقصان الدين وذهاب أصوله وحقيقته، قال رسول الله (صلعم): «فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين».
3 ــ يؤدي الى حرمان الجنة أو التأخر بدخولها، قال رسول الله (صلعم): «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم». فيتضح لنا ان التسامح هو الركن الأول والأهم لسلامة الوحدة الإسلامية التي هي واجب شرعي مقدس وهي أهم من الطائفة وأكبر من المذهب، والتسامح بين المسلمين وغيرهم هو المدخل الوحيد اليوم لمواجهة كل أنواع المؤامرات والاعتداءات على وطننا وعلى شعبنا.
وإن من غير الجائز اليوم والأمة تواجه هذا الكم من الأعداء والمؤامرات أن نسمح بتصدر فئات أو مجموعات أو أفراد دينيين أو سياسيين يقومون باسم الدين بالتزام التشدد والمغالاة وبث التفرقة والأحقاد، ويعتمدون في فتاويهم وتصريحاتهم منهجاً مخالفاً ومناقضاً تماماً لمنهج وتوجيهات نبينا محمد (صلعم) الذي قال: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا»، وقوله: «ليس منا من دعا الى عصبية».
ويجب ان يكون واضحاً لدى المخلصين الصادقين سلم الأولويات وترتيب الأهميات وأن ينظروا الى القضايا المصيرية ومشكلات الأمة الخطيرة، أما الخلافات الضيقة والإشكالات المحدودة فإنها تهون وتتضاءل أمام مواجهة العدو ومؤامراته السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، ويصبح من الواجب الشرعي على الجميع أن يتجاوزوا ويتسامحوا ويتصالحوا ويتحابوا ليواجهوا الأخطار المحدقة والمصائب الواقعة الحالة، وأن يحدد المسلمون من هو عدوهم الحقيقي وصفات هذا العدو من منطلق الشرع والقيم والوطنية، لا من مزاجية التوصيف والمصالح الأنانية الفردية ليختلط عند البعض توصيف العدو من الصديق. والتلاعب بثوابت العيش المشترك وقواعد التعامل مع غير المسلمين وخاصة لمن ينضوون تحت اسم (أهل الكتاب) أي اليهود والنصارى، وأن يكون أول ثوابت العيش المشترك استخدام الأسلوب الراقي للحوار الفكري والمناقشات الإيجابية البناءة، يقول الله تعالى: «أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن». وثاني ثوابت العيش المشترك ما شرّعه الإسلام من معاملتهم على قدم سواء مع المسلمين، وما كفله لهم من حرية ممارستهم لحياتهم بكل تفاصيلها، من عبادتهم وأداء طقوسهم وبيع الخمر إلى أكل الخنزير ولو كان في ذلك مخالفة صريحة لما شرّعه الإسلام، وما منع من التعرض لهم أو الإساءة إليهم ما داموا لم يمسوا الأمن العام للدولة ولم يسيئوا للمجتمع المسلم. يقول الإمام شهاب الدين القرافي: «فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو أي نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله وذمة دين الإسلام».
لقد أكد الإسلام على أتباعه ان يكونوا منفتحين وهم يتعايش ون مع أهل الكتاب، وأن يؤسسوا علاقاتهم معهم على مبدأ التقارب والمواطنية وخاصة حينما يكونون مواطنين في الدولة نفسها التي يظللهم أمنها ورخاؤها، ويعملون جميعاً على حمايتها من كل اعتداء، وفي الوقت عينه يؤكد إعطاءهم حريتهم الشخصية، وضمانة واقعهم السياسي والاجتماعي، وان نوفر لهم الأمن السياسي والعسكري والاجتماعي من أي تطاول أو تجاوزات قد تسيء لهم من داخل الدولة أو من خارجها، بل لقد أجاز للمسلمين أن يصاهروهم وان يأكلوا طعامهم وذبيحتهم وصيدهم وأن يشاركوهم في أفراحهم وأتراحهم وأن يواسوهم. كل ذلك لتمتين العلاقات الاجتماعية وإرساء قواعد ثابتة للعيش المشترك.
ولكننا وللأسف نلاحظ بعد كل ما ذكرناه من ثوابت شرعية، وقواعد إيمانية، أن هناك من يخرج بين الفينة والأخرى ليزيد الأمور ضبابية وتعقيداً بين الناس، من خلال ما يصدره من فتاوى أو تصريحات غير مسؤولة، أو ما نشاهد من تصرفات شاذة، وأعمال وأقوال متطرفة، تسيء أول ما تسيء للإسلام وتحمّله ديناً وتشريعاً أخطاء هؤلاء الذين لم يتحلّوا بالحكمة والدراية ولم يفقهوا حكمة التشريع ومقاصد الشريعة.
وأخيراً فإن الدين والأمانة يفرضان علينا جميعاً ــ وخاصة على العلماء ورجال الدين ــ أن نساهم في عملية تصحيح المفاهيم الخاطئة عند البعض، وتأكيد ونشر ما بين أيدينا من قيم وحضارة وتاريخ، وعلينا في كل موقع وزاوية ان نؤكد الثوابت الشرعية لمنهجية التعامل الحقيقية بين المسلمين بعضهم مع بعض، وبين المسلمين وغيرهم، وجعلها منطلقاً لكل أنواع التعامل المادي والفكري والاجتماعي والسياسي بكل إيجابية وانفتاح وتسامح، على أسس الأخلاقيات الراقية لدين وصف الله تعالى نبيه محمد (صلعم) بقوله: «وإنك لعلى خلق عظيم».
*رئيس جمعية نشر علوم القرآن الكريم