رياض صوما *
خلال العدوان الاسرائيلي الأخير على لبنان، أعلن الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، في مؤتمر صحافي نقلته كل وسائل الإعلام العربية والاقليمية والدولية، وفاة «عملية السلام»، وأطلق ما يشبه الصرخة: «لقد ضحكوا علينا». والمقصود طبعاً، أن قادة الولايات والحلف الأطلسي، ضحكوا على أصدقائهم العرب، وأوهموهم بأنهم سيضغطون على اسرائيل لتتعطف وتراعي بعض المطالب العربية والفلسطينية، أو على الأقل تخفف من ضغطها عليهم، ولكنهم لم ينفذوا أياً من وعودهم. كانت وقائع الحرب آنذاك طاغية على ما عداها، فحجبت الى حد كبير ما جاء على لسان عمرو موسى. مع ذلك لفتت الدلالات الخطيرة لما نطق به عمرو موسى، نظر العديد من السياسيين والصحافيين، وأحرجت قادة النظام العربي الرسمي، الموصوفين «بالحكمة والاعتدال»، فسارعوا الى تجديد مناشدتهم «أصدقاءهم» الغربيين، للسعي لدى اسرائيل لإحياء «عملية السلام»، ورفعوا طلباً الى مجلس الأمن للاهتمام بالمسألة. ولكن، لم يكن حظ هذه المناشدة بأفضل من سابقاتها. فلا مجلس الأمن أولى الطلب العربي اهتماماً، ولا قادة الغرب خفضوا مستوى دعمهم إسرائيل، ولا تلك الأخيرة أوقفت عدوانها المتواصل على العرب والفلسطينيين خاصة. بل حصل العكس تماماً، إذ طلبت رايس من أخلص أتباعها العرب، الذين وصفتهم بقوى الاعتدال، وهم المخدوعون حسب تعبير الأمين العام، موافاتها الى القاهرة، فلبّوا الطلب كالعادة من دون تردد. ولم يُفاجأوا بطلباتها. ممنوع تأليف حكومة وحدة وطنية في فلسطين، ولم تتألف حتى الآن. لا وقف لسياسة الاغتيالات، ولم تتوقف حتى الآن. ممنوع تأليف حكومة وحدة وطنية في لبنان، ولم تتألف حتى الآن. ممنوع وقف المذبحة في العراق، التي لم تتوقف فحسب بل تبلغ حدوداً جنونية. ممنوع فرملة انهيار المنطقة، والانهيار يتسارع. المطلوب فقط الإسراع في إعلان حلف «المعتدلين البنّائين» (المخدوعين حسب توصيف عمرو موسى) مع اسرائيل، لتصعيد المواجهة مع إيران وحلفائها «المتطرفين والهدامين». وينبغي على «أصدقاء رايس» نسيان أي موضوع آخر. فلا أولوية أخرى تتقدم هذه «القضية المقدسة»، في المدى المنظور. ويذهب بعض القادة الاسرائيليين، من أجل إذكاء الصراع المذهبي في المنطقة، وصبّ الزيت على النار، الى المزيد من إيضاح ما ترغب فيه رايس والصهاينة وتدقيقه: «إنشاء حلف اسرائيلي مع «معتدلي السنّة، لمواجهة الشيعة» وحلفائهم. والحقيقة المرة أنه لا يمكن إنكار الاستعداد القائم لدى العديد من القوى التي نصّبها قادة الغرب والقدر التعيس لمنطقتنا ، متحدثة باسم السنة والشيعة، لتنفيذ ما يطلب منها، حتى لو كان الانتحار. وهذا الانسياق الأعمى ليس جديداً على تاريخ المنطقة، التي شهدت منذ انهيار السلطنة العثمانية، نمطاً من القيادات العربية والأنظمة العربية التابعة للغرب، المدمنة على خداعه، بممارسة مازوشية قلّ نظيرها على صعيد التاريخ السياسي في العالم. لتفكيك السلطنة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وعدوهم بالاستقلال وإقامة الدولة العربية الموحدة، ثم «فاجأوهم» بسايكس ــ بيكو والانتدابات. ثم وعدوهم بالعمل للحؤول دون قيام الكيان الصهيوني، بينما كانوا يسهلون هجرة الصهاينة ويساهمون بتسليحهم. ثم أقنعوهم بعد الحرب العالمية الثانية، بالانضمام إليهم في خطة تطويق الاتحاد السوفياتي، ففعلوا من دون تردد. ثم طلبوا منهم قتال جمال عبد الناصر، ففعلوا، ولم يخطر على بالهم آنذاك، أنه من أهل السنة. وتوالت الحروب الاسرائيلية على المنطقة بدعم الولايات المتحدة والحلف الأطلسي، فلم تهتز ثقتهم «بأصدقائهم» الغربيين، ولا تبرّموا ولا احتجوا، وكأن ما يجري على أرضهم يحصل في كوكب آخر. ثم طلبوا منهم دعم الحرب في أفغانستان، فتذكروا أنهم مسلمون. ثم طلبوا منهم الدعم لتجاوز صعوباتهم المالية، فدفعوا مئات المليارات من الدولارات ثمن أسلحة لم تستخدم سوى في الاستعراضات. ثم أقنعوهم بمساندة صدام في حروبه الداخلية والخارجية فانصاعوا. ولما قرروا احتلالهم، رحبوا بكرم عربي أصيل. ثم طلبوا منهم المشاركة بحصار
الشعب الفلسطيني، فانصاعوا من دون أدنى اعتراض. وتناسوا أن حماس، هي من متشددي أهل السنة. ولا عجب في ذلك، «انهم يحترمون المجتمع الدولي». والآن يطلب منهم الانسياق الى مواجهة مفتوحة مع ايران، وقد أبلغتهم رايس الأمر كما أشرنا أعلاه. وقد بدأوا يولولون على الخطر الفارسي، والهلال الشيعي، غير آبهين بأن هذه المواجهة ستفاقم التوترات المذهبية القائمة، وستحولها الى حروب أهلية مذهبية وسياسية واسعة، لن يسلم منها بلد في المنطقة. وسيكونون أول من يدفع الثمن. لذا يبدو أن عمرو موسى، كمن يحاول تخفيف المسؤولية عن القادة العرب المتعاونين أو المرتبطين بالغرب، عندما يعتبرهم مخدوعين. فليس هناك من ينخدع طوال قرن ونيف من الزمن، إن لم يكن راغباً بالخديعة. فالحقيقة المؤلمة التي دفعت المنطقة ثمنها باهظاً حتى الآن، وستدفع أكثر في المستقبل، هي عجزها عن الخلاص من هؤلاء القادة المستعدين للقيام بأي شيء، بما في ذلك تدمير مجتمعاتهم، من أجل الحفاظ على المصالح التي تجمعهم بأسيادهم وراء المحيطات.
ولكن يبقى السؤال المطروح على الآخرين المستهدفين من المخطط المعادي. هل هم متنبّهون كفاية للأفخاخ المنصوبة لهم، وهل يبذلون الجهد الكافي لقطع الطريق على ما يحضّر للمنطقة؟ ويزداد السؤال إلحاحاً، عندما ندرك الغاية الفعلية من إزاحة وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد واستبداله بوزير الدفاع الجديد، خريج وكالة الاستخبارات المركزية، وقسم العمليات فيها تحديداً. فليس الهدف من هذا التغيير، امتصاص النقمة على الجمهوريين وحصر مسؤولية التعثّر بالوزير المستقيل فحسب، بل الإفساح في المجال لتحقيق الأهداف عينها بوسائل متغيرة. وحتى لا يقع المستهدفون بأسوأ مما وقع فيه عمرو موسى، ويخدعون أنفسهم، بدل اتهام الآخرين بخداعهم، عليهم التوقف عن الرهان المبالغ به على التعثر الأميركي، والالتفات الى الصعوبات التي تنتظرهم. فنجاح الديموقراطيين في الانتخابات النصفية للكونغرس غير كاف لإيقاف اندفاعة مشروع بوش وفريقه، وخاصة أن تناقضات المنطقة تقدم كل الفرص لاستغلالها من التحالف الغربي وامتداداته. لقد بالغ رامسفيلد بالرهان على قوة النيران والتقنيات الحديثة لتحقيق الحسم العسكري والسياسي، وفعل الاسرائيليون مثله خلال عدوانهم الأخير على لبنان، فدفع ثمن رهانه، وسيدفع وزير الدفاع الاسرائيلي الثمن بدوره. ولكن ذلك يعني أن علينا انتظار تكتيكات جديدة أكثر خبثاً، سيتولى تنفيذها الفريق الأميركي الاسرائيلي الجديد، إذ سيتم من جهة إغراق الطلائع المقاتلة لقوى الصمود والممانعة في العراق وفلسطين ولبنان بالتناقضات الداخلية، لإرباكها، ومن جهة أخرى إيهام القوى الداعمة لها بفرص المساومات، لهز صدقيتها وزرع التناقضات في ما بينها. إن أداء أطراف المحور
المتصدي للمشروع الأميركي الصهيوني، يحتاج الى المزيد من الاستشراف والمرونة والحيوية وروح المبادرة لمواجهة الجولات المقبلة التي ستشكل «السياسة» ميداناً أساسياً من ميادينها.
ونأمل أن يقدر عمرو موسى على القول يوماً، لقد تنبّهنا لخداعهم ولو متأخرين.
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني