بولس الخوري *
عندما لا يقام وزنٌ للدستور وللمؤسّسات وللقوانين ولحاجات المواطنين الحياتيّة، تبطل الشرائع من جرّاء فقدان الشارع الذي يشرّع بالقسط والميزان، وعندما لا يسمَع الشرائعَ المؤتمنون على الشرائع ولا يُطيعونها، عندئذٍ لا يبقى من شارع يشرّع إلاّ الشارع. وذلك أنّ الناس، المواطنين، هم الأسياد وعندهم ولمصلحتهم يعمل الحاكمون، من رؤساء ونوّاب ووزراء وموظّفين في الإدارة. ومن حقّ الشعب أن تعلو كلمته على أيّ كلام.
أمّا المتخوّفون من نزول المواطنين إلى الشارع ليشرّعوا، فإنّهم ظنّوا أنّ على المواطن أن يُضرب بحقوقه وحرّيّاته ومصالحه ومصيره عرض الحائط، وأنّ عليه هو الخضوع والطاعة لمن لا مبرّر لوجودهم في المناصب إلاّ كونهم في خدمة أسيادهم المواطنين. هل تكون هذه هي الديموقراطيّة؟
هذه الذهنيّة الشاذّة هي التي أودت بلبنان إلى شفير الهاوية. ومن أوصاف هذه الذهنيّة الشاذّة أنّها قلبت الموازين، وجعلت المواطنين في خدمة الزعماء، فجعلت الخادم يتحكّم بمصير سيّده. هذا هو عين الانقلاب الذي حذّر المحذّرون من أهواله.
وإذا ما بلغ الفساد حدّ الإمعان في الانقلاب، وذلك بأن يقوم الخُدّام بوضع القوانين على هواهم، لم يعد من حلّ ومن سبيل لتصحيح الوضع إلاّ أن يكون الشارع هو الشارع، وأن يكون هو من يسهر على تنفيذ ما شرّع، فتعود الحقوق إلى المواطنين، وتُنتَزَع السلطة من أيدي الذين اغتصبوها، ويعود الوعي للمواطن الذي دفعته الظروف المعيشيّة إلى التخلّي عن سيادته، فيُعيد لنفسه هذه السيادة. وإذا ما تهيّأ له أن يستعيدها، اتّهموه بمحاولة الانقلاب على النظام. والسؤال: أيّ نظام؟
ومن غريب أوصاف هذه الذهنيّة الشاذّة أنّه يحقّ لبعض المواطنين ما لا يحقّ لغيرهم، من تظاهرة تعبيراً عن الرأي. فصنّفت عدالة المتحكّمين بأعناق الناس المواطنين فئتين: فئة من ارتضوا لأنفسهم التبعيّة والتخلّي عن سيادتهم وتسليمها لخادمهم، وفئة من وعى كونه هو السيّد، وأنّ على القاعدين على كراسي الحكم أن يهبّوا للخدمة، وأن يقلعوا عن الاستخفاف بعقول الناس، ظنّاً منهم أنّهم قد يدجّنونهم بمعسول الكلام، أو بالتهويل من الإخلال بالنظام.
ليس كلّ من قال حرّيّة سيادة استقلال، كان حرّاً سيّداً مستقلّاً، بل غالباً ما يكون الهاتف بأعلى ما أوتي من صوت بهذه الكلمات السحريّة يعني من حيث لا يدري أنّه ليس هو بالفعل الحرّ السيّد المستقلّ، بل هم قلّةٌ ممّن استغلّوا طيبة القلب عند المواطنين فصوّروا لهم أنّهم يكونون أحراراً أسياداً مستقلّين لمجرّد كون زعمائهم ينعمون بالحرّيّة والسيادة والاستقلال، أي لمجرّد كونهم قد رهنوا وطنهم الحرّ السيّد المستقلّ لهذه أو تلك من الدول الأجنبيّة، فصاروا أتباعاً ومرتهنين، وحاولوا جعل وطنهم تابعاً ومرتهناً.
لن يُصحَّح هذا الشواذ إلا بأن يستعيد الشعب حقّه في أن يكون هو مصدر السلطات والشرائع. ولو كان الشارع شوارع، يبقى أنّ الشارع هو الشارع.
* كاتب لبناني