بولس خلف
إن الأزمة السياسية والدستورية التي يتخبط فيها لبنان اليوم، هي من دون أدنى شك الأخطر منذ أن نالت البلاد استقلالها عام 1943. السبب الرئيسي في اندلاع أحداث 1958 كان يتعلق بموقع لبنان في الصراع الإقليمي الدائر يومذاك. وعلى رغم وجود عوامل محلية تتعلق بموازين القوى وتوزيعها داخل النظام السياسي، بقيت هذه الأسباب ثانوية ولم تطغ أبداً على تلك الأزمة التي أمكن حلها من خلال إنتاج تسوية إقليمية أعادت الهدوء وجمّدت التناقضات من دون تقديم حل نهائي لها. أما الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، فكانت العوامل الداخلية السبب الرئيسي في تهيئة ظروف انطلاقها وإطالة عمرها. كان هناك فريق سياسي كبير وفاعل يسعى الى تعديل موازين القوى وإرساء معادلة جديدة تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات السوسيولوجية والديموغرافية والسياسية التي لم تعد تسمح باستمرار الأمور على ما كانت عليه. وقد تسلل اللاعبون الإقليميون الى الساحة الداخلية التي فقدت مناعتها واختلط الحابل بالنابل وضاعت الأسباب الحقيقية لاندلاع الحرب. وعلى رغم عمق التناقضات، حافظت الدول العربية والغربية الفاعلة بقدر من التوازن في مقاربتها للأزمة اللبنانية، ما سمح لها بإنتاج تسوية سياسية تُوّجت باتفاق الطائف. صحيح ان هذا الاتفاق الذي وضع حداً للحرب الأهلية عدّل بموازين القوى الداخلية وأعاد توزيع السلطة، ولكنه اتسم بالواقعية والعقلانية ولم يبن على مبدأ الغالب والمغلوب.
إن ما يشهده لبنان اليوم هو خليط من أحداث عام 1958 ومن حرب 1975. وقد يؤدي هذا المشهد الى مزيج شديد الانفجار يمكن ان يتسبب بنهاية لبنان كما نعرفه.
هناك فريق لبناني يحاول، عن سابق تصور وتصميم، أخذ لبنان الى موقع إقليمي نقيض للثقافة السياسية التي تغنّى بها معظم أركانه منذ عقود، والتي تربّى عليها معظم اللبنانيين. يريد هؤلاء ربط البلد بالمحور الاميركي ــ الغربي في زمن قرر فيه هذا المحور الالتصاق كلياً بالسياسة الاسرائيلية والتخلي عن كل اعتراضاته عليها ولو الشكلية. في زمن اختفت فيه التناقضات والتمايزات بين الولايات المتحدة وأوروبا في كيفية حل القضية الفلسطينية. والأخطر من ذلك، أن أركان هذا الفريق مصممون على تغيير الخيارات الإقليمية للبلد حتى لو أدى ذلك الى الإخلال بالتركيبة الداخلية وبأسس النظام السياسي القائم منذ الاستقلال والذي جُدّد عام 1989 من خلال اتفاق الطائف.
لقد ضربت المجموعة الحاكمة أهم ركيزة للصيغة اللبنانية وهي الديموقراطية التوافقية. خرقت مبدأ الميثاقية وتجاوزت الدستور وفسرته كما تشاء وقررت المضي قدماً بخياراتها على رغم ان شريحة كبيرة من اللبنانيين تطالبها بالكفّ عن ذلك وبالاستماع الى رأيها. لكن السلطة لم تر مئات الآلاف التي نزلت الى الشارع ولم تعط آذاناً صاغية لصرختهم. لقد انقلبت المجموعة الحاكمة على الصيغة اللبنانية واستبدلت بالثقافة التسووية التي تحكم العلاقات بين القوى السياسية والفئات المختلفة، دكتاتوريةً لا تزال مقنّعة حتى الآن وقد تصبح علنية غداً.
ما يزيد الأمر خطورة هو أن الضوابط الإقليمية التي كانت تمنع في الماضي الأزمات اللبنانية من الانزلاق الى نقطة اللاعودة قد اختفت. الدول العربية المحورية مثل مصر والمملكة السعودية تخلّت عن دور الوسيط وقررت الانحياز التام الى فريق من اللبنانيين ضد آخر.
خلافاً لما كانت عليه الأمور في عامي 1958 و1975 لم يعد هناك أي طرف إقليمي يمكنه المساهمة في إنتاج تسوية تمنع انفجار البلد وتدميره.
انطلاقاً من هذه الوقائع يمكن القول إن لبنان يعيش اليوم أزمة وجودية لم ير مثلها من قبل. وإمكانية الخلاص ستظل ضئيلة الى ان تقتنع القاهرة والرياض بضرورة مغادرة موقعهما الحالي الى موقع أكثر وسطية.