عمر كوش *
لم يكتسب «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي» أهميته من اللحظة التاريخية التي رافقت صدوره فقط، بل من كونه شكّل علامة بارزة في الحياة السياسية السورية، إذ جمع طيفاً سياسياً واسعاً على جملة من المبادئ والتوافقات العامة، وجعلها تستشرف آفاق التحولات المحتملة في سوريا بشكل خاص والمنطقة العربية بشكل عام.
وترافق الإعلان مع لحظة لم تعد فيها دعوى الإصلاح في سوريا على ما كانت عليه من الصلابة والوعد، إذ أخذت الثقة، التي كانت قوية بها مع مطلع الألفية الجديدة، تتلاشى شيئاً فشيئاً أمام الإخفاق الواضح في إمكان تحقيق الإصلاح بمختلف جوانبه، وخصوصاً في جانبه السياسي، فسادت حالة من انسداد الأفق، حيث بات الجمود مقلقاً في كل الأوضاع، بل أخذ التقهقر يطاول العديد من مقومات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وأصبح واضحاً للمهتمين بالشأن السوري، بعد مرور أكثر من سنة على إعلان دمشق، أن التوجه السياسي والاقتصادي المتبع ساهم في دفع الأزمة المديدة التي فتحها إفلاس نظام الهيمنة الشمولي إلى مزيد من التفاقم. ومن المرجح أن تشهد الأوضاع الاجتماعية والسياسية المزيد من الاحتقان والالتهاب.
لقد انتظر السوريون الإصلاح، منذ أكثر من خمس سنوات خلت، وراهن العديد من المثقفين ومن المعارضين السياسيين على الخطابات التفاؤلية التي صدرت عن بعض رموز السلطة وروّجتها أجهزة الإعلام المحلية والعربية والدولية، ولكن لم يحدث إلا الشيء اليسير من المطلوب، رغم التشجيع والدعم الكبيرين الذي تلقاه النظام من طرف بعض الدول العربية والأوروبية. واتخذت خلال السنوات الماضية خطوات خجولة في اتجاه إصلاح جزئي، إداري واقتصادي، وتمّت الاستعانة بالخبرات الأوروبية من أجل الإصلاح الإداري لمؤسسات الدولة، واعتبر بعضهم الإشارات والخطوات العابرة، مثل تعيين مسؤول غير بعثي في الحكومة أو في منصب ما ـ غير حساس ـ من علامات الإصلاح، وهو أمر لم ينطل على متابعي الشأن السوري ولا على النشطاء السوريين. كما جرت عمليات تسويق لانتعاش اقتصادي مزعوم من خلال المراهنة على أموال بعض الاستثمارات الخليجية، التي لم تغادر قطاعي السياحة والخدمات، عبر الإعلان عن مشاريع قرى سياحية وفنادق فخمة وأبنية لأصحاب المليارات والملايين الكثيرة، فضلاً عن الأمل الذي خاب وكان معقوداً على توقيع اتفاقية الشراكة الأوروبية السورية. ويرى المهتمون بالشأن السوري العام أن النظام سيجد صعوبات أكبر فأكبر في مقاومة الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة، فيما تزداد الحاجة إلى تضافر الجهود والسير نحو مشروع تغيير ديموقراطي يكون أكثر قدرة على الرد بصورة إيجابية وفعالة على الضغوط الخارجية، ويلبي حاجات تطور المجتمع وضمان مصالح وحقوق جملة المواطنين السوريين.
ويمكن القول إن مكمن المشكلة كان في النظر إلى الإصلاح، من حيث هو دعوة آتية من الخارج، وشعار سارعت إلى التشبث به مجموعة من القوى الداخلية، ولم يتم النظر إليه بوصفه ضرورة للتغيير، تتطلب تحديد الأهداف المرجوة منها، ثم تعيين الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف. وبما أن الأمر لا يتعلق فقط بمفهوم يحدد الرؤية والمنهج، مع أنهما يتحددان به، فإنه لم يتم التوافق على مضمون مفهوم الإصلاح، سواء من حيث المرجعية أو من حيث الرغبة والسبل الكفيلة بتحقيقه.
وبالنظر إلى معنى الاصلاح في العصر الحديث نجد أنه مركب سياسي واجتماعي وثقافي، يفضي إلى إعادة بناء أو تشكيل الأوضاع القائمة، أي تغيير طبيعتها ومسارها بما يعني إعطاؤها صورة أخرى جديدة. لكن معناه التاريخي ارتبط عربياً بما سُمي عصر النهضة، حيث يفيد حضوره بحدوث الفساد في الشيء، مادة وصورة، الأمر الذي يستلزم إصلاحاً، يتمّ فيه بالرجوع إلى الوضع الذي كان عليه قبل حدوث الفساد، أي إرجاعه إلى وضعه السابق. وبالتالي فإن فكرة الإصلاح هي فكرة ماضوية بهذا المعنى، لاقت رواجاً في فهم أغلب من يطالبون بالإصلاح، بينما المطلوب هو التغيير بمعناه الحديث، وبالتحديد التغيير الديموقراطي الاجتماعي، لأن الوضع الذي تعيشه سوريا، ومعها مختلف البلدان العربية يشهد حالة من التقهقر والانهيار تصل إلى درجة المحنة.
وتنهض أركان هذه المحنة وعناصرها الكبرى على غياب أفق التغيير وبرامجه، والإخفاق في التنمية، والخواء أو الفراغ الثقافي والروحي، وما ينتج عن ذلك من تدهور في الشروط المادية والفكرية والمعنوية لحياة معظم الناس، وفساد لمبادئ القانون والأخلاق والقيم، وامتهان لكرامة الفرد والجماعة، وانتهاك مختلف الحريات والحقوق الأساسية للإنسان. وعليه، خابت كل الآمال السابقة، وخسرت كل المراهنات على الإصلاح، وزاد الأمر تفاقماً تزايد الضغوط الأميركية والأوروبية على النظام السوري، الأمر الذي راكم مزيداً من اليأس حيال الواقع الحاضر وآفاق المستقبل. وبالتالي فإن جملة الخيبات دفعت طيفاً واسعاً من المعارضة السورية إلى الأخذ بمقولة التغيير الإنقاذي، وعبروا عنها من خلال وثيقة «إعلان دمشق». لقد دفع سقوط الوهم في الإصلاح إلى بروز حاجة سوريا الملحة إلى التغيير الديموقراطي، مع الأخذ بالحسبان أن أهمية الديموقراطية في الحالة السورية تقتضي الابتعاد عن الأوهام التي تصوّرها حلاً فريداً لكل المشكلات التي تواجه البلد. إذ لا يمكن تصور الديموقراطية من دون جملة المفاهيم المرتبطة بها، كالمواطنة وسيادة القانون وحقوق الإنسان واستقلال القضاء وحرية الرأي والتعبير، والتداول السلمي للسلطة وغير ذلك. كما أن التعامل مع الديموقراطية، ينطلق من اعتبارها منظومة تاريخية في طور التجريب، وعلى المهتمين بالشأن العام المشاركة في تطويرها، باعتبارها مشروعاً سياسياً، يهدف إلى تجسيد قيم المساواة والعدالة والحرية والكرامة والسلم التي يريدها لتسود في المجتمع، وتتحكم في مناحيه، ولها آليات معينة ومحددة تماماً، وتقتضي عودة الناس إلى السياسة كي يسهموا في إيجاد الحلول المناسبة، وخصوصاً بعد أن انتفت السياسة في بلدنا، وجرت عمليات مقصودة لتعطيل الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي.
إن السياسة كما يقول «ماكس فيبر» أشبه بعملية ثقب ألواح المعادن القاسية، لذلك تتطلب الصبر والهدوء، وتُلزم السياسي إعلان التزام طويل. وفي حال سوريا، فإن الأولوية تقتضي إعادة السياسة إلى المجتمع بما يضمن ويمكّن الجمهور العام وقواه الحيّة من الدخول في الحوار وتبادل الرأي في كل مسائل الشأن العام، بصبر ورويّة، والابتعاد عن الشعارات الطنانة، كي نقترب من جوهر السياسة القائم على التداول والخطاب الواقعي والمنطقي والاستعداد للتفاعل وللتبادل والتسويات.
*كاتب سوري