توفيق المديني *
تعود مقولة «الشارع العربي» في تاريخها إلى نهاية حرب الخليج الثانية، وتجدد استخدامها في الحرب الصهيونية العدوانية الحالية على لبنان ،من أولئك الذين يتحدون سطوة الغرب، منطلقين مما يمكن أن يساعد على العموم موقفاً معادياً للإمبريالية الأميركية وقاعدتها الاستراتيجية في المنطقة ممثلة بالكيان الصهيوني. ولما كان العالم العربي يبدو للكثيرين أشد المناطق تأزماً وتفجراً في حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي، إذ يمكن القول إن العالم العربي مثّل ساحة للحروب بين الدول أكثر مما مثّلته أية منطقة أخرى من العالم، فقد تنبأ العديدون أن تؤدي مقولة «الشارع العربي» دوراً مركزياً في مواجهة الأعمال العدوانية الموجهة ضد العرب والمسلمين.
وفي الواقع، نقول اليوم «الشارع العربي» مثلما كنا نقول في السابق «الجماهير الشعبية» و«الشعب العامل» و«الطبقة البروليتارية» و«الثورة الوطنية الديموقراطية». ولكل مرحلة تاريخية معينة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، والموجات التي استتبعتها من حركات تحرر وطني معادية للاستعمار، وحركات قومية راديكالية علمانية، وأحزاب اشتراكية وحركات إسلاموية، تبحث كل مقولة من هاته المقولات الآنفة الذكر في تعيين الأطراف الفاعلين الذين يحددون مجرى الأحداث السياسية. ولكل مقولة من هذه المقولات دينامية تؤكد دفعة واحدة خضوع العالم العربي للهيمنة الداخلية ممثلة بالأطر النكوصية السلطوية الموروثة من مرحلة الحرب الباردة، و للهيمنة الخارجية ممثلة بالإمبريالية، وتوفر فرصاً لمستقبلات بديلة، أكثر ديموقراطية وسليمة، وبصرف النظر عن مدى تطابق هذه المقولات مع حاجات الواقع وعملية تغييره نحو الأفضل. وفي ظل العالم العربي الذي دخل القرن الواحد والعشرين وهو محفوف بالمخاطر حقاً، إذ إن العلاقة بين العالم العربي والاقتصاد العالمي ما زالت علاقة ضعف، وإلى حد كبير علاقة تبعية، وما زالت سياسة الولايات المتحدة الأميركية منحازة بإطلاقية للكيان الصهيوني ومتواطئة مع الأطر السلطوية، وما زالت اللامساواة الصارخة في توزيع الثروة والسلطة والحقوق، وهي لامساواة تعرف أيضاً باسم الإمبريالية ــ قائمة.. في ظل هذا الوضع، الشارع العربي ليس في المحصلة النهائية، سوى المصيبة الأخيرة، وهو يدق جرس إنذار عن مأزقه، لأن الانتقال من البروليتاريا، والفلاحين الفقراء، والجماهير الشعبية، والقوى الاجتماعية المعادية للإمبريالية والصهيونية، إلى مقولة «الشارع العربي»، يعني الانتقال من الدقيق نسبياً إلى المرونة على وجه الخصوص، من العياني إلى الجمهور الضبابي الصامت لا بسبب شرطه الاجتماعي، ــ وبدرجة أقل من إيديولوجيته السياسية ــ بل بسبب الغضب الشديد بلا شرط، أي غياب الوعي السياسي المطابق الذي ينشد التغيير الراديكالي. قد تكون مقولة «الشارع العربي» مفيدة بالدرجة الأولى، للمثقفين العضويين بالمعنى الغرامشي، المتميزين عن النخب العربية (أكاديميين، مؤرخين، روائيين وصحافيين) المتواطئة مع السلطات، والتي تعيد إنتاج الدوغما الرسمية، بدلاً من أداء دور الانتلجنسيا في مواجهة التحديات. كما أصبحت مقولة «الشارع العربي» تحتل موقعاً مركزياً في الخطاب السياسي لقوى المعارضة على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية في العالم العربي، نظراً لأن الشارع العربي من وجهة نظرها يجسد الملاذ الأخير للآمال التي تم هدرها، وهي تعتقد بأنه يتمرد وينتفض على مضطهديه. إذ إن التاريخ المعاصر للعالم العربي كان ولا يزال، مسألة الحرمان من الحقوق لكل الاتجاهات الفكرية والسياسية التي انخرطت في نضالات شعوب المنطقة منذ الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إذ كان قوام هذه النضالات مناهضة التدخل الإمبريالي الخارجي بشقيه الأميركي والصهيوني، ومقاومة القهر المسلّط على مستوى الجنسين، وضد قمع الصحافة ومصادرة الحرية الأكاديمية ونفي الأمن، ومن أجل الظفر بالحريات الفردية والعامة المتساوقة مع حقوق الفئات الاجتماعية. فمن جهة، ليس الاضطهاد، ومصادرة الحقوق، والديكتاتورية، والعدوان والتدخل العسكري من امتياز الدول الخارجية، لكي نلقي المسؤولية على عاتق الإمبريالية والعدو الصهيوني وحدهما فقط. فـ«الشارع العربي» في هذا الإحساس، هو الفاعل السياسي المثالي، وهو بامتياز، غير قابل للحجز أو الموت السياسي، أمام تفاقم التهديد لحقوق الإنسان، والعدوان الإمبريالي الأميركي والصهيوني الخارجي. فهو يمثل في آن معاً الاستقالة واعتزال السياسة في مواجهة الخمول السائد والحالة الانتظارية المتجددة بلا انقطاع، التمرد فجائي وغير متوقع. مع تفاقم النزعة العدوانية الصهيونية إلى حدها الأقصى، ولا سيما بعدما اعتلت سدة الحكم في الكيان الصهيوني مجموعة من أشدّ الصهاينة إرهاباً وتطرفاً، وبعدما بات التفوق الأميركي ساحقاً، والهيمنة الأميركية مطلقة عقب أحداث 11 أيلول، إذ إن الذي سيعادي الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني سيجد نفسه وحيداً أمامهما بدون أي حليف بجانبه، أصبح مفهوم «الشارع العربي» يخدم حاجات الدول العربية نفسها وقسماً من أوروبا، التي في نظرها يمثّل الشارع آخر متراس في مواجهة المخططات الأميركية ــ الصهيونية، التي تصدر القوائم بالدول العربية والإسلامية المحتمل أن تكون هدفاً لضربات أميركية مقبلة.
لقد أثبتت التجربة التاريخية المعاصرة القريبة منا زمنياً، والحاضرة في وعينا ووجداننا، أن التحرك الفعلي والباقي للشارع العربي، يتقدم بتوافر شرطين أساسيين ضروريين: أولهما وجود دولة وطنية كدولة مصر الناصرية، هي جنين دولة قومية أو دولة قومية بالقوة، يمكن أن تصبح كذلك بالفعل عند توافر الشروط الذاتية والموضوعية اللازمة، وثانيهما نمو الحركة الشعبية في مناخ الحرية الفكرية والسياسية. فلم تتبلور ملامح المشروع القومي الديموقراطي العربي المناهض للإمبريالية الأميركية وللكيان الصهيوني واقعياً وجدياً، إلا في ظل نمو هذه الحركة التي ركبت موجتها الأحزاب السياسية، ثم ما لبثت أن خذلتها إن لم نقل خانتها.
وليست ظاهرة الصمت السائدة في «الشارع العربي» وانطلاق مسلسل العدوان الإمبريالي ــ الصهيوني المذل والمدمر، وعملية التهميش المضاعف الذي يتعرض لها الرأي العام العربي، والقوى السياسية، في ظل الرأسمالية المتوحشة الأميركية والدول المرتبطة بها، التي عملت في كل مكان على تقليص مساحة الحرية، ومحيط الديموقراطية، وسعت إلى ما يمكن أن يدمر جهاز أمن العولمة، سوى مظهر من مظاهر أزمة السياسة في العالم العربي.
* كاتب تونسي