خليل أحمد خليل *
في الجنوب، لكل شيء رمز أو اسم آخر. الفقراء سمّوا البلّوط كستناء، وسمّوا زلمة البيك بيكاً، ولو كان من خشب. ومع الاستقلال سُمّي جبل عامل جنوباً بالنسبة الى بيروت، ثم شمالاً بالنسبة الى «اسرائيل» ولا سيما «بنات الهاغاناه» اللائي يُنقل عنهن ــ بعدما لم يعد يُنقل أثر عن «بنات طارق» ــ أنهن «يشتّين في فلسطين ويصيّفن في لبنانا» ــ وربما لهذا الوهم شنت «اسرائيل» حروبها على لبنان ربيعاً وصيفاً، قبل ان تعيث فيه قتلاً وتدميراً ما بين 1978 و2000، ثم في صيف 2006. لكن اسماً خاصاً بمدفع للجيش كان منصوباً في مربض البياضة، قرب مقام شمع، لم يعد أحد يذكره. وفيما نحن في تموز 2006 تحت النيران «الشارونية» ــ نسبة الى شارون (CHARON)، المسمى الميــــــتولوجي اليوناني، الذي يعني «حارس جهنّم» ــ وتحت الأمل الذي كان السيد يبثّه فينا وفي الأرض، بعيداً، أبعد من... ومن... ومن... عدنا بالذاكرة الى «سفير جهنّم»، ذلك المدفع اللبناني الذي سحب من أرضنا، عشايا 1975، بعدما ألغت حكومة الشباب صفقة «صواريخ كروتال» المضادة للطائرات، وهكذا، من دون «سفير جهنّم» هذا، وزملائـــــه من المدافع المنتشرة على عدة مواقع ــ ومنها موقع بير السلاسل، انكشف الجنوب للعدو الاسرائيلي الذي اتخذ من إراقة دمائنا ومن تدمير بيوتنا وتخريب زراعاتنا واحتلال أراضينا مصدراً لهويته الجهنمية. وانحصرت هويتنا في مصدرين، الموطن والوطن، الأرض والدولة، العقيدة واللغة، المقاومة والسلاح.
ثم بدأنا ندرك معنى سحب «سفير جهنم» من جهتنا، لينعم من الجهة الأخرى «حارس جهنّم» بالاعتداء الدائم على قرانا ومدننا وأهلنا ومدارسنا. من هناك بدأت مأساتان: مأساة جيش لبنان ــ كما وصفها النائب العقيد فؤاد لحود في كتاب بهذا العنوان ــ، ومأساة شعب لبنان، التي لم تُوصّف بعد حق توصيفها. لماذا؟ لأن عين السلطة المركزية كانت نرجسية جداً، ترى نفسها في مرآة المال، الذي كان جداراً في عصر فؤاد شهاب، فجاء من بعده مَنْ صقلوه مع كارثة بنك أنترا (1966) وكارثة 1967، و1968 (غزو مطار بيروت)، ولا ترى أطراف البلد ولا حدوده، فماذا نفعل ونحن على الحدود مكشوفين للفقر وللعدو ولعبّاد مامون (إله المال عند الفينيقيين، أي التجار الحمر، كما سمّاهم الإغريق)؟ ماذا نفعل بأنفسنا وليس أمامنا سوى عمة جبل الشيخ (حرمون) وعمّة السيد التي تشي للجميع بسنا الفجر، من عمة عبد الحسين شرف الدين الذي أقام للناس جامعاً ومدرسة، الى عمّة موسى الصدر الذي أقام للوطن معنى جهادياً، الى حسن نصر الله الذي تعمّم بعمامة المقاومة، سيداً مع سادة، ولا يزال؟
في الجانب الآخر للوطن، كانت سفارات جهنّم تعترف بالاحتلال ولا تعترف بحق المحتل في مقاومة محتليه. هناك كان «حارس جهنّم» ينقل جثثنا من الحياة الى الموت، وهو يعرف كما نعرف ان الحياة هي مقاومة دائمة للموت. وهذا ما لا يعرفه سكان الجنّة المركزية والأطراف البعيدة. لا يعرفون أننا نحن، دون سوانا، سكان جنّة ــ جهنمية في آن، وأن ثقافتنا هي ثقافة الدفاع عن الحياة، لا ثقافة موت وسواد واكتئاب، كما خال بعضهم من خلال وصفهم «يوم الدم» العاشوري.
نحم لم نرث «سفير جهنم» ولا «صاروخ كروتال» من أحد. عشنا أكثر من أربعين سنة في تيه الحروب والاعتداءات، حتى صارت المقاومة أو الثورة محرّك ثقافتنا ومدماك هويتنا الوجودية وقاطرة جماهيرنا التي وجدت تعبئتها في أعباء حياتها الحدودية. فخارج الجنوب لا أظن ان هناك منطقة أخرى تُدعى «الشعب» وتشرف مباشرة على الأرض المحتلة، لكن من دون «سفير جهنّم»، ولا أظن أن في إمكان غير الحدوديين، جنوباً وشرقاً وشمالاً، أن يكتنهوا فلسفة المكان الذي ينتج ثقافة الوطنية والعروبة والمقاومة. فلا مبنى لتحرير الإنسان من دون تحرير مكانه. ولا معنى لحرية الإنسان من دون سيادته بسلاحه على أرضه ــ مقابل عدو جعل مستقبله رهناً بسلاحه، كما ادعى شيمون بيريز في كتابه «مستقبل اسرائيل»، المعرّب في عمّان، عندما سئل عن «حدود اسرائيل» التي يطلب من العرب أن يعترفوا بها، فقال لمحاوره الأميركي «اسرائيل حدودها جيشها». نحن لم نكن بحاجة الى تصريحه هذا، حتى ندرك أننا نعيش في بلد حدوده مقاومته وعروبته وإنسانيته الإسلامية. لكننا أدركنا، ونحن نقاوم بين العاصمة والحدود، كما أدرك قبلنا عبد الناصر في الفالوجة (1947 وما بعدها)، ان الدولة التي لا تقاوم أعداءها، لا تكون مستقلة ولا سيادية ولا وطنية، بل تكون دولة/حاجز، تقيم في الداخل كازينو أو دكاناً على بحر، أو شركة نفط (مثل شركة نفط العراق، التي يملكها بريطانيون وفرنسيون وتاجر أرمني، مقابل شركة تابلاين، التي هي امتداد للآرامكو السعودية). يومها أدركنا أننا نعيش في دولة ــ شركة، لا في دولة/ شراكة (Co-Etat)، كما جاء عند فرانسوا شاتليه في «تاريخ الأفكار السياسية» (بتعريبنا، 1984). وفهمنا ما كان يتردد على لسان متاجري الثورة المشتركة بين الشعبين اللبناني والفلسطيني، الذين اعتبروا أن عماد السلطة هو المال والفساد والتجسس والتهريب، والذين قالوا وهم يقهقهون في مقاهيهم السياسية وفنادق أحلامهم: «الثورة يدعو لها المثقفون والأدباء، ويقوم بها الأغبياء، ويقطف ثمارها الأذكياء». وفاتهم متأخرين أن يدركوا أن المال عنصر في السياسة، ولكنه ليس السياسة، كما رأى كمال جنبلاط وجيله، وأن السلاح عنصر في القتال وليس هو المقاومة، وأن الانسان هو مقياس ومعيار كل شيء من المال الى السلاح.
مع التجارب المديدة لمقاومات الشعب اللبناني، في المركز والأطراف، تبين أنه أمام عدو دائم كالعدو الصهيوني، لا يمكن المقاومة أن تكون حدثاً عابراً، ولا يمكن المواطنين ان يكونوا عدداً ــ كما هي حال التعامل معهم في المدن الكبرى كبيروت والقاهرة وسواهما (الناس في الدنيا عدد: مات ولد، جاء ولد: الناس في الدنيا عدد).
المقصود بالناس هنا الفقراء، الموسومون بميسم الغباء كالغنم وسواها... والمقصود بالأذكياء هنا الذين يخونون شهداءهم ويسرقون أموالهم. وفاتهم أن للجمهور، مهما كانت أمّيته، ثقافته المقاومة والواعية، وقدرته على الصمود وفهم مجريات الصراع مع عدو دائم كالكيان الصهيوني الغاصب. للتذكرة، أشير هنا الى مورد بشري لا يُقهر صادفته مراراً في حياتي، عام 1978 حين رفض أحمد أن يغادر منزله متحدياً بيغن: «يهددنا بالقتل على أرضنا، وهو لا يعلم أنه لا مطلب آخر لنا سوى الموت المقدس في هذه الأرض والاندفان فيها»، وحين مانع رضا، كبير البستانجية في صور، ان يرحل شمالاً مع أولاده، فكان يرعى الغنم تحت صواريخ أولمرت، ثم نلتقي مساء، فيسألنا «هل دخلوا أرضنا؟ فنقول له: لا. فيقول إذاً سينهزمون»! وفي الجنوب، كما في بيروت وكل لبنان، جيل آخر ذو عقيدة لا تلين، وذو علم يتسامى أكثر فأكثر، ويعرف ان الأميركي هو «سفير جهنّم» الاسرائيلية، وان المشاركة في القرار السياسي هي المدخل للديموقراطية الصحيحة. هذه الديموقراطية المشوهة بالطائفية، الأكثر عنصرية من كل ديماغوجية أخرى، لا تكون صحيحة إلا اذا وضعت السلطة بين الناس ــ لا فوقهم فتكون الديكتاتورية، ولا تحت أقدامهم فتكون الفوضى، ولا في جيوبهم فتكون رشوة العقول والضمائر معاً.
وها نحن على عتبة انتقال السلطة من الوثن مامون الى الجمهور اللبناني، الذي لم يشهد في كل تاريخه الحديث تحولاً وطنياً ــ ثورياً بحجم التحوّل الراهن. فالمقاومة ضمن دولة عادلة هي مضمون السياسة اللبـنانية الجديدة، التي يحاول «سفير جهنّم» ان يقلبها لمصلحة أولمرت شارون أو أولمرت بوش، وكلاهما في غيبوبة عما يجري في لبنان والمشرق العربي والاسلامي، المستنير بذاته والمفتدي أرضه بكل شيء. فهل يخجل المرتزقة من سفـــــــيرهم، ويسافرون معه، بلا رجعة؟
* كاتب لبناني