علي حمية *
تحرص قوى المعارضة ــ على اختلاف مكوناتها السياسية ــ على الطابع الديموقراطي السلمي لتحركها الشعبي الهادف الى إسقاط الحكومة الفاقدة، برأيها، للشرعية الدستورية والشعبية، المرتهنة للأجنبي، والمدينة له ببقائها في السلطة حتى هذه اللحظة.
وفي الوقت الذي تصر فيه المعارضة على أنها مستمرة في اعتصامها ــ وإن امتد لأسابيع أو شهور ــ حتى تذعن الحكومة للإرادة الشعبية العامة بإخلاء السرايا والخضوع لمطالب الجماهير المحتشدة في الشوارع والساحات العامة، فإن هذه الحكومة ــ أو ما تبقّى منها ــ المنكفئة على نفسها داخل السرايا الحكومية، تصر هي أيضاً على انها لن تستجيب لنداءات الشعب لها بالاستقالة، ولن تخضع للشارع ومطالبه، على الرغم من التبعات التي يفترضها لجوء الشعب الى الشارع لإسماع صوته وإنفاذ إرادته، والأكلاف الباهظة التي بدأ الشعب في دفعها والتي لن تكون دماء الشهيد الشاب أحمد محمود آخر أثمانها، في هذا الصراع المفتوح على مصراعيه: محلياً وإقليمياً ودولياً!
صحيح أن التحرك الشعبي، السلمي والديموقراطي، هو أرقى أنواع التعبير عن الإرادة العامة، وأن التغيير الذي يأتي ثمرة هذا التحرك هو، أيضاً، أرقى أنواع التغيير السياسي وأكثرها شمولية، وأعمقها، وأكثرها ديمومة. ولكن الصحيح، أيضاً، هو أن التحرك الديموقراطي يفترض وجود طرف آخر، ديموقراطي هو أيضاً، الأمر الذي تفتقده الحياة السياسية في لبنان، منذ إنشاء هذا الكيان. فالطرف الآخر المفترض هو، من جهة، محتكر للسلطة، مستأثر بالحكم، رافض لمبدأ الشراكة الحقيقية، وهو، من جهة ثانية، جزء من مشروع أجنبي، أميركي بامتياز، أعدّ لمنطقة المشرق العربي منذ غزو العراق، ويستهدف إعادة رسم خريطة المنطقة ــ ومن ضمنها لبنان ــ وفاقاً للمصالح الأميركية ــ الصهيونية، بحيث تسود «إسرائيل» وحدها، كمخفر أمامي للمصالح الغربية في شرقي المتوسط، تتحكم بمصيره ومصير دوله وحكامه! الأمر الذي يفسر تمسّك القوى الدولية والاقليمية ــ وخصوصاً الاميركية والفرنسية والعربية السعودية والمصرية ــ بالسلطة الحاكمة في لبنان، واستماتتهما في الدفاع عنها لمنع سقوطها.
لذلك، التحرك الديموقراطي السلمي لا يعني ــ بالضرورة ــ أن يكتفي الشعب بالنزول الى الشارع والاعتصام في وسط بيروت ــ أياماً وربما شهوراً ــ مندداً بالسلطة، مطالباً برحيلها، فالاعتصام مشروع ومطلوب ولكنه، في حالة لبنان، لا يكفي! فالسلطة الحاكمة عبّرت بلسان رئيسها وجماعته وجمهوره عن أنها لن ترحل، وهي تقدم الدليل تلو الدليل على انها متشبّثة بالسلطة حتى لو أدى ذلك الى خراب البصرة!
إن المعارضة التي أثبتت في تحركها الشعبي العارم الذي ابتدأ منذ اليوم الأول من الشهر الجاري أنها تمثّل أكثرية اللبنانيين، وعبّرت بالتالي عن رباطة جأش، وانضباطية عالية، وشعور كبير بالمسؤولية، على الرغم من الاستفزازات اليومية، والتعديات التي تتعرض لها، مطالَبة بوصفها أكثرية ساحقة مسؤولة عن المصير القومي العام وأمام تعنّت الفريق الآخر، بفعل ما تراه مناسباً لإنفاذ إرادتها، وإنقاذ لبنان من الفوضى التي تخطط الدوائر السرية في واشنطن وباريس لإغراقه في بحرها والتي ــ اذا ما قدر لها أن تعم ــ ستغرق لبنان والمنطقة العربية في أتون حروب قد تبدأ ولا تنتهي!
لذلك، المعتصمون في بيروت مدعوون ــ اليوم وليس غداً ــ الى إكراه السلطة على الاستقالة بالطريقة التي يراها المعتصمون مناسبة، وذلك قبل فوات الأوان! عمل كهذا يندرج، أيضاً، في خانة التحرك الديموقراطي، لأن أكثرية شعبية ــ في هذه الحالة ــ تكون قد أنفذت إرادتها وإرادة مجموعها!
إن المعارضة الشعبية مدعوّة، أيضاً، الى تكثيف برنامجها، وذلك بأن تختصر المراحل، من دون أن تحرقها، لأن المتربّصين بلبنان، من قوى دولية وقوى محلية مأجورة لها، كثر ولن يثنيهم فشل مشروعهم «الشرق الأوسطي» في العراق عن محاولة تمريره انطلاقاً من لبنان! الحكومة الساقطة شرعياً وشعبياً وأخلاقياً تتماهي مع هذا المشروع وتضع بسببه البلاد ومصيرها في كف عفريت! ويبدو انها اختارت خيار شمشون بعد أن أيقن من هلاكه المحتم بأن دعا بالموت على نفسه وعلى أعدائه! وهي، أيضاً، تسير في هذا الخيار، ولن يضيرها تحويل لبنان الى قاع صفصف!
* استاذ في الجامعة اللبنانية