بعد أخذ ورد ومحادثات استمرت لشهور بين إيران والسداسية الدولية، جرى التوصل إلى اتفاق نووي لحل أزمة البرنامج النووي الإيراني السلمي، وسط ضمانات بتقييد عمليات التخصيب، فيما من المفترض أن يرفع كامل الحظر عن إيران.هذا الاتفاق بني على أساس التسويات السلمية كأفضل إطار لحل الأزمة بعيداً عن العسكريتارية وجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة بكل ما للتعبير من معنى.

كانت الوسيلة الأساسية للتوصل إلى هذا الاتفاق الدبلوماسية المتعددة الأطراف التي برهن الإيراني قدرته على خوضها لنسج علاقات دولية جديدة تغير من معالم أزمات المجتمع الدولي.

أهمية الدبلوماسية المتعددة الأطراف

بالرغم من أهمية الدبلوماسية الثنائية لحل الخلافات، إلا أنه نظراً إلى تعقد العلاقات الدولية وتشابكها، ظهر ما يسمى الدبلوماسية المتعددة الأطراف التي تنشأ بين الدول في المؤتمرات والمنظمات الدولية.
أخذ هذا النوع من الدبلوماسية أهمية كبيرة في الآونة الأخيرة، ليحل مكان المفاوضات الثنائية. وتتميز الدبلوماسية المتعددة الاطراف بأنها تكون بين عدد كبير من ممثلي الدول، وبالتالي إن مصالح مغايرة مختلفة لا بد من التوفيق بينها من خلال عمل جماعي متعدد الأطراف، وقد كان ذلك في المفاوضات النووية.
من سمات هذا النوع من الدبلوماسية أولاً المساواة بين الأطراف وانطلاقه ثانياً من وحدة المشاكل والمخاطر للمواجهة المشتركة بأقل كلفة ممكنة. وهذه الدبلوماسية تسمح بتعديل توازن القوى، إذ إن الدول كثيراً ما تواجه هذا الواقع عندما توجد أكثرية دولية ترفض سياسات معينة.
ركيزة هذه الدبلوماسية الأساسية المفاوضات التي تُعَدّ من أقدم الوسائل لتسوية المنازعات وأكثرها شيوعاً. ويمكن تعريف المفاوضة بأنها تبادل «الرأي بين دولتين متنازعتين بقصد الوصول إلى تسوية للنزاع القائم بينهما». وتجري المفاوضات عادةً بين وزراء خارجية الدول المتنازعة وممثليها الدبلوماسيين، أو من يوكلون إليهم القيام بتلك المهمة.

ضرورة القوة للتفاوض

أظهرت الدبلوماسية الإيرانية براعة في استخدام الأسلوبين للوصول إلى أهدافها، فقد خاض الوفد الإيراني دبلوماسية ثنائية عند الحاجة مع الولايات المتحدة الأميركية، فيما كان ينتقل إلى الدبلوماسية المتعددة الأطراف لتثبيت أي اتفاق مع الأميركي من خلال مشاركة الدول الكبرى.
من المعروف تاريخياً أن نتائج المفاوضات تتناسب مع معادلة القوى على طاولة المفاوضات، ولا يحصل الضعيف إلا على ما يتناسب مع ضعفه، وربما أيضاً مع درجة الإحسان التي يتمتع بها القوي. من هذا المنطلق ذهبت طهران منذ البداية قوية إلى هذه المفاوضات، تحاورت مع الأميركي حوار الند للند، بحيث لم يستطع فرض شروطه فقط عليها، بل كان الاتفاق موازياً، وإن كانت قد حصلت بعض التقديمات أو التنازلات في الملف النووي، فهذا من أصل التفاوض بحيث لا يمكن التوصل الى اتفاق إلا بتنازل، وكما كان من المنتظر أن تقدم إيران بعض التنازلات كان الأميركي يقدم تنازلات أيضاً.

إيران دولة نووية

اليوم، تتجه الجمهورية الإسلامية الإيرانية بخطوات سريعة نحو دخول نادي الدول النووية باعتراف المجتمع الدولي. هذا التوجه أصبح واقعاً لا يمكن تغييره، ولن يقبل الشعب الإيراني بالتراجع عن حقه، وهذا واضح، ما دام من حق إيران تطوير برنامجها النووي بنحو سلمي على غرار الكثير من الدول.
لقد بات المجتمع الدولي متيقناً أن إيران لن تتراجع، وستصبح دولة نووية دون فرق، برضاه أو عدمه، لذلك كان خياره الأفضل أن تكون إيران نووية مع رضاه مع ضمانات بعدم التحول نحو القنبلة النووية.
لم تخرج إيران من المفاوضات خالية الوفاض، بل كانت طريقة إدارتها للتفاوض تقوم على قاعدة ربح ربح، ومع محافظتها على حقوقها بقي أن ترفع عنها العقوبات التي فرضت منذ عام 1979، من قبل واشنطن، إلى أن تحولت هذه العقوبات عام 2006 إلى عقوبات دولية من خلال مجلس الأمن، ويمكن الإشارة إلى أن هذه العقوبات موزعة كالآتي:
كان خيار المجتمع الدولي أن
تكون إيران نووية مع ضمانات بعدم التحول نحو القنبلة

ــ العقوبات الأميركية: بدأت العقوبات الأميركية ضد إيران عام 1979 بعد أزمة الرهائن ودخول السفارة الأميركية في طهران. ليعلن الرئيس آنذاك جيمي كارتر حالة طوارئ تقتضي تجميد كل الأصول الإيرانية. وأخذت تتطور هذه العقوبات تباعاً إلى أن منعت الولايات المتحدة المصارف الأميركية في عام 2008 من أن تكون وسيطاً في تحويل أموال من إيران أو إليها. واستهدف القانون الأميركي لعام 2010 إمدادات الوقود الإيراني التي تعتمد على المنتجات المكررة. وقد شددت واشنطن عامي 2011 و2012 عقوباتها على الأشخاص، ومع أخذ المفاوضات شكلاً أكثر جدية في عام 2013 بدأت الإدارة الأميركية تتريث في تطبيق عقوبات جديدة ضد طهران.
ـ العقوبات الأوروبية: انضم الاتحاد الأوروبي إلى الدول التي فرضت عقوبات على إيران منذ عام 2010، معتمداً أسلوباً تسلسلياً في فرض تلك العقوبات.
في تموز 2010، جمّد الاتحاد أنشطة بعض المصارف الإيرانية. وفي عام 2011، جمد أرصدة 433 كياناً إيرانياً و113 شخصاً إضافياً، وفرض حظراً نفطياً بشكل تدريجي، تبعه حظر كامل منذ بداية تموز/ يوليو 2012.
ـ عقوبات مجلس الأمن: العقوبات الأميركية والأوروبية كانت عقوبات فردية، ولكن هناك عقوبات جماعية اتخذها مجلس الأمن الدولي بطلب أميركي، فقد أصدر مجلس الأمن 6 قرارات ملزمة تفرض عقوبات على إيران، يمكن تلخيصها كالآتي:
القرار 1696، بتاريخ 31/7/2006، كان أول القرارات الصادرة عن مجلس الأمن حول البرنامج الإيراني، تحت المادة 40 من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، حيث دعا إيران إلى تعليق جميع الأنشطة المتعلقة بالتخصيب. بعد ذلك أتى القرار 1737، بتاريخ 23/12/2006، وفقاً للمادة 41 من الفصل السابع، لفرض حصار اقتصادي أوسع على طهران، مكرراً بعض ما جاء في القرار السابق. وطالب القرار السلطات الإيرانية بتعليق جميع الأنشطة المتصلة بالتخصيب والماء الثقيل. وتابع المجلس قراراته ضد إيران، فتبنى القرار 1747، بتاريخ 24/3/2007، وإن كان قريباً من القرارات السابقة، إلا أنه وسّع دائرة الحظر على إيران لتشمل معظم منظومة الأسلحة التقليدية من دبابات ومركبات وطائرات قتالية وقذائف ومدفعية.
ومن ثم تبنى المجلس القرارين 1803 و1835 عام 2008، حيث وسّع الحظر على المعدات والسلع التكنولوجية المتعلقة بالنشاط النووي الإيراني، وأتى القرار 1929، بتاريخ 9/6/2010، تحت المادة 41 من الفصل السابع، موسعاً بشكل كبير جملة العقوبات المفروضة على إيران.
بعد هذا العرض يمكن القول، إن تمكن إيران من التوصل إلى صيغة تفاوضية مع السداسية الدولية تفك الحظر عنها عبر قرار فصل سابع صادر عن مجلس يعني ذلك انتصاراً كبيراً لطهران، لأن قرار الفصل السابع لا يفكه إلا قرار مماثل. أضف إلى ذلك، إن مجرد الوصول إلى فك كل هذه العقوبات التي فرضت عليها لحصارها من قبل المجتمع الدولي اقتصادياً، يعني أنها دولة قادرة وناجحة استطاعت من خلال التفاوض كأفضل الوسائل والحلول للتوصل الى اهدافها، بعيداً عن عسكرة الازمة.
هذا الاتفاق لا ينعكس ارتياحاً على إيران فقط، بل على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، ويمكن أن يشكل مرحلة مستقبلية جديدة في العلاقات الدولية والإقليمية، بحيث يبنى عليه كنموذج يحتذى به لحل أزمات عالقة بعيداً عن خوض معارك عسكرية تؤجج النزاعات القائمة.
* باحث لبناني