ليلى نقولا الرحباني *
يتظاهر المسيحيون والمسلمون في لبنان اليوم جنباً الى جنب، من أجل تحقيق مطالب أساسية أعلنتها المعارضة الوطنية، وهي تحقيق حكومة وحدة وطنية، والمطالبة بقانون انتخابي عادل يوفر التمثيل الصحيح، وحق المشاركة لكل اللبنانيين.
وعلى الرغم من أن العلم اللبناني اليوم هو موحّد لكل المذاهب، تختفي تحت ألوانه جميع المعايير الطائفية، لكن السجال الذي ابتدعه بعض وسائل الإعلام يجعلنا نقوم بدراسة متأنية للأسباب الإضافية التي تدفع المسيحيين الى التظاهر والاعتصام اليوم ــ كمسيحيين مؤمنين بتعاليم الكنيسة، وملتزمين بتوصياتها.
إيماناً منّا بأن «راعي الكنيسة» يجب أن يكون «المدبّر والراعي الصالح» الذي أقامه السيد المسيح «ليسوس شعبه ويرعى خرافه الناطقة» وهو «تاجر الوزنات التي سوف يحاسب عليها»، نعود لنذكّر ببعض المواقف الصادرة عن هؤلاء، والتي تؤكد صوابية خيار المسيحيين السياسي، وهو خيار المعارضة لهذه السلطات المتتالية، والنزول للاعتصام اليوم من أجل تحقيق المطالب المحقة. نبدأ مع المطران الياس عودة الذي قال في إحدى عظاته مستنكراً مساوئ «هؤلاء الذين يرتّبون حياتنا»، ما حرفيته: «في هذا البلد المسؤولون يستعملون سياسة «بلّطوا البحر» يعني أننا نريد أن نعمل ما نريد وأنتم يا شعب بلّطوا البحر، وهذا غير مقبول»، من هنا نفهم كمسيحيين أن المطران عودة سيستنكر أيضاً قول الرئيس السنيورة: «خيّطوا بغير هالمسلة» ويثني على موقف المعارضة في العمل على إسقاطه سلمياً وديموقراطياً.
أما في عظة أخرى، فيتحدث عن «زبانية الظلم» وينادي شباب لبنان وشاباته بالقول: «لا تيأسوا أنتم أرز لبنان. كلما انتفضتم عرفنا أن لبنان باقٍ، وكلما نمتم يؤدي نومكم الى الموت».
ننتقل لنقارن بين مطالب المعارضة اليوم، والتوصيات الصادرة عن أعلى جهة مارونية، وهي نصوص وتوصيات المجمع البطريركي الماروني عام 2006:
أولاً: قامت مطالب المعارضة ودعوتها الى الاعتصام لإسقاط الحكومة على أساس أن هذه الحكومة فقدت شرعيتها، وذلك انطلاقاً من مقدمة الدستور التي تنص على أنه «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، فما هو موقف الكنيسة الواضح والمكتوب من هذا الأمر:
تذكر النصوص والتوصيات حرفياً، «أن الكنيسة المارونية ساهمت في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها اتفاق الطائف (1989)، ونظرت الكنيسة الى هذا الاتفاق على أنه مدخل لطي صفحة الصراعات الماضية بين من كان يطالب، باسم العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين من كان يسعى، باسم الحرية، الى حماية الكيان وتثبيت نهائيته. لذلك ترى الكنيسة أن هذا الاتفاق يثبّت أولوية العيش المشترك على كل ما عداه، ويجعل منه أساساً للشرعية. وقد حسمت مقدمة الطائف الجدل القائم حول طبيعة العقد الاجتماعي بين اللبنانيين، فاعتبرت أن العيش المشترك هو في أساس هذا العقد وأنه لا شرعية تناقض ميثاق العيش المشترك».
ثانياً: تورد نصوص المجمع البطريركي الماروني «أن سلطة الوصاية السورية تمكنت من تحوير اتفاق الطائف، فضربت العقد الاجتماعي في الصميم، وذلك من خلال خطة مبرمجة اتخذت أشكالاً متعددة ومنها: الاستهداف السياسي عبر قوانين انتخابات لا تراعي التمثيل الصحيح، واستهداف أمني طاول عدداً من الشخصيات السياسية المسيحية والشباب المسيحي في لبنان، واستهداف ديموغرافي عبر قانون التجنيس... واستهداف إعلامي قام بعملية تخوين جماعي للمسيحيين وتشويه صورتهم والنيل من دورهم الرائد»، لذلك «وضعت الكنيسة مذكرة مفصلة عام 1998، وقدمتها الى رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري تطالبه فيها بتطبيق اتفاق الطائف نصاً وروحاً، وإحقاق المشاركة المتوازنة المسيحية والإسلامية في الحكم... وتسأله الى أي متى يستمر الاستقواء بالخارج داخل السلطة اللبنانية...»، وهنا يسأل مسيحيو المعارضة: ألم تقم حكومة السنيورة الموجودة بضرب العقد الاجتماعي الذي أقرّه اتفاق الطائف، وكلنا يعرف مدى الظلم الذي لحق بأبناء الطوائف، من غير السنّة المحسوبين على تيار المستقبل، في الإدارات والوظائف العامة؟ وما هو قانون الانتخابات الذي قامت هذه السلطة على أساسه، هل كان قانوناً يراعي التمثيل الصحيح، ألم يرفضه البطريرك الماروني؟ وكيف يتم الاعتراف بهم كأكثرية اليوم وهم أتوا بقانون مزورّ للإرادة الشعبية؟ ألم يكن هناك استهداف أمني للشخصيات «المسيحية» في ظل هذه الحكومة التي لم تستطع اكتشاف خيط واحد في أية جريمة؟ وماذا عن تخوين 75% من المسيحيين واتهامهم بدخول المحور السوري الإيراني؟
ثالثاً: في التوصيات أيضاً: «تؤمن الكنيسة بأنه يجب أن تقوم شراكة كاملة في القرار السياسي بين الجماعات الطائفية كافة، ولا مساومة ترضاها الكنيسة في شأن تلك المساواة في الحقوق، وهذه الندّية في صنع القرار»، وتذكّر النصوص بموقف غبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في هذا الصدد، وقوله: «إذا كان قد قام في زعم البعض أنه يكفي الأقلية أن يوفر لها عمل وطعام وشراب ونوم وراحة ولهو، على أن يتولى عنها الشأن السياسي والقرار فيه سواها، فهذا انتقاص فاضح لحقوق الانسان وكرامته، لا يرضاه إلا من تنازل عن حقه في إنسانيته».
انطلاقاً من هنا، من حق المسيحيين أن ينتفضوا لحقوقهم السياسية والمدنية، ويرفضوا التخلي عن انسانيتهم، ويطالبوا بأن يكون لهم كما لسواهم الحق في تقرير أمورهم بأنفسهم وأن لا يقرر عنهم أحد سواهم.
رابعاً: حول تقسيم الوطن أو ما يقال عنه الفيدرالية، تورد النصوص قولاً للبطريرك، في افتتاح الدورة العادية السنوية لمجلس البطاركة الكاثوليك عام 1992، هذا نصه: «إذا كان هناك من يطمعون بالراحة في التقوقع على الذات والانكفاء والاكتفاء بقطعة أرض ولو ضيّقة يعيشون فيها في مأمن من أي إزعاج، فلن يلقوا هذه الراحة. وإذا كانت العناية قد وضعتنا حيث نحن منذ مئات السنين، فلدور أرادته لنا وهو تأدية الشهادة المسيحية تعزيزاً للعيش المشترك». ومعلوم أن شعار المعارضة اليوم هو: «لبنان الواحد الموحد»، في المقابل نرى أن دعوات التقسيم والفدرلة تأتي من جهة الموالاة، لذلك من الطبيعي أن يكون المسيحيون مع طروحات المعارضة التي تتلاءم مع توصيات المجمع البطريركي الماروني، ومع «الإرشاد الرسولي».
خامساً: تذكّر التوصيات الجميع بأن الكنيسة ترفض أي خلط بين «الإيمان» و«التعصب الديني»، وتقول إن «المؤمن يستعمله الله، بينما المتعصب فإنه يستخدم الله، والمؤمن يتقي الله، بينما المتعصب فيهدد الآخرين باستمرار.... لذلك ترفض الكنيسة التعصب، وتعتبره شكلاً من أشكال إنكار الله والانسان معاً»، كذلك إن مسيحيي المعارضة يرفضون بشكل تام إنكار الله والإنسان معاً. وها هم اليوم منفتحون على الآخر من منطلق الشراكة، والندّية، واحترام حقه في الاختلاف من دون أن يتخلى أحد عن خصوصيته الدينية.
سادساً: تخلص التوصيات الى القول «المطلوب من اللبنانيين اليوم استخلاص دروس الحرب، والإدراك أن مصير كل واحد منهم مرتبط بمصير الآخر، وأن خلاص لبنان يكون لكل لبنان أو لا يكون، ذلك أن ما من حل لمجموعة دون أخرى ولا لمجموعة على حساب أخرى»، وتلك هي مطالب المعارضة بالتحديد.
يتأسس دور لبنان على تجربته المميزة في العيش المشترك الذي هو قدر اللبنانيين، ولكنه خيارهم الحر أيضاً، لذلك هم يتحملون مسؤولية ترسيخ هذا العيش، وتخطّي ما لحق به من خلل ومشاكل، لأن ما يجمع بينهم أكثر مما يفرّق، وعلى أمل أن تكون هذه التجارب التي يخوضها الشباب اللبناني، سواء في اعتصامات السنة المنصرمة أو اعتصامات اليوم، بارقة أمل في تخطي الطائفية البغيضة والنهوض بالوطن نحو بناء المواطنية الصحيحة.
* باحثة لبنانية