محمد طي *
مثّلت التظاهرة الجماهيرية الحالية في وسط بيروت انتفاضة جماهيرية خرج فيها الناس للتعبير عن موقفهم تجاه ممارسات الحاكمين منذ سنة ونصف سنة، فأعلن الحاكمون الحرب على هؤلاء الناس، وهبّت الأنظمة العربية والأنظمة الإمبريالية لمساندة هؤلاء الحاكمين ضد شعبهم، ويأتي هذا الموقف الداخلي والعربي والدولي، على الرغم من طرح الجميع شعار الديموقراطية برسم التطبيق الحالي أو المستقبلي.
والديموقراطية التي تعني حكم الشعب، عبّرت عنها الدساتير في شكل محدد، فلم تعد حكماً مباشراً للشعب، بل أصبحت حكماً لمن يفوّضهم الشعب بذلك حسبما يقضي القانون. ففي الدستور اللبناني يرد في الفقرة (د) من المقدمة: «... الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية». وفي دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية يرد في المادة (3): «السيادة الوطنية ملك الشعب يمارسها بواسطة ممثليه وعن طريق الاستفتاء». والدستور السويسري ينص في المادة (71) على ان الجمعية الفيدرالية (وهي المنتخبة من الشعب) لا تملك كامل الصلاحية في الحكم، بل هي «تمارس السلطة العليا مع التحفظ لجهة حقوق الشعب...».
وهكذا في سائر الدساتير.
إذاً الديموقراطية تمارس بواسطة آليات تحدد دور الشعب وكيفية تفويضه السلطة.
وهذا ما يتمسك به الممسكون بالسلطة فيقولون: إذا كانت الديموقراطية في الأساس هي حكم الشعب، فإن الشعب يمارس الحكم بواسطة ممثليه، ونحن ممثلوه، أو حاكمون برضا ممثليه. حتى إذا أبدى الشعب رأيه، فهم لا يقيمون له اعتباراً، بدعوى ان هناك من ينوب عنه ويعبّر عن رأيه.
إلا ان هذا الموقف يتجاهل حقيقة أساسية تتمثل في كون الشعب هو صاحب الحق الأصيل، والممثلون هم الوكيل، وأنه عندما يعبّر الأصيل عن رأيه لا يبقى للوكيل رأي آخر.
وكل موقف لا يلتزم بهذه الحقيقة هو موقف ديكتاتوري عادي، أو ديكتاتوري فاشي، لأنه لا يقيم وزناً للجماهير التي يراها غوغاء أو دهماء.
وهذا ينطبق على حاكمي لبنان اليوم، كما ينطبق على كل من يساندهم من العرب وغير العرب، وهم جميعاً يتذرّعون بشكليات قانونية لإخفاء موقف سياسي، هو في الحقيقة موقف من الشعب اللبناني أولاً، ومن شعوب أخرى ثانياً.
فالشعب اللبناني وقف بالأمس في وجه الآلة الحربية «الاسرائيلية» وأفشلها، وكان أفرقاء عديدون يعلّقون آمالاً على هذه الآلة العسكرية:
في الداخل كان الفريق الحاكم يسعى للقضاء على قوة كانت تمنع إلحاق البلد بركب تقوده أميركا، وهو من مصلحتها ومصلحة «اسرائيل»، للإطباق على ما أمكن من المنطقة وشلّ قوى الممانعة فيها، تمهيداً لتحقيق مشروعهما مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وهو نسخة معدّلة عن مشروع إيزنهاور للشرق الأوسط منذ خمسين سنة، الذي فشل في خمسينيات القرن الماضي.
وفي محيط «الاعتدال» العربي، أي الأنظمة الملتحقة بالمشروع الأميركي الصهيوني، كان الرهان على أن يقضى على تلك «الأقلية» المشاكسة «المغامرة» لتستتب الأوضاع لاستمرارها على كراسيها على الرغم من شعوبها، بعدما ضمنت لها الحكم القوى المهيمنة عالمياً اليوم. إلا ان هذه الضمانة لا تستطيع الوقوف في وجه الانتفاضات الشعبية، التي يمكن ان تتحرك بالعدوى من المقاومة اللبنانية.
وفي محيط الإمبريالية والصهيونية، سرت الخشية من خروج المارد من القمقم في المنطقة العربية والاسلامية وحتى في كل العالم.
من هذا كان هذا الحلف ضد الشعب اللبناني يوم كان يقاوم محاولة الغزوة «الاسرائيلية» كما اليوم. فلماذا اليوم؟
إبان العدوان، كان الخوف من أن تسري عدوى العمل المقاوم لتحرّك الشعوب ضد العدو التاريخي، ولا سيما بعدما فضحت المقاومة الأسس التي قامت عليها اتفاقات الصلح مع العدو.
وفي تحرك الشعوب هذا تهديد للأنظمة التي أبرمت الصلح و«خضّ» للمستنقع العربي بكامله. وفيه أيضاً تهديد لكل المصالح غير المشروعة التي فرضت على الشعوب لمصلحة الدول الامبريالية، ومنها دول استعمارية كانت تحكم منطقتنا مباشرة.
إلا ان العدوان توقف، وتأييد الجماهير العربي لقتال «إسرائيل» أصبح، ظاهرياً، غير ذي موضوع وعادت الناس الى الصف. ولكن الذين ظنوا أنّهم أنهوا الحرب وأنقذوا من أنقذوا، يكتشفون اليوم أنهم لم يحققوا شيئاً، بل على العكس هيّأوا للشعب اللبناني، سواء من قاوم منه بالسلاح أو من احتضن أهالي المقاومين، رافعة للتحرك، وها هو يحتشد بمئات الآلاف ليسائل الحاكمين عما فعلوه أثناء العدوان وعما فعلوه قبله وبعده.
ومن هنا كان الذعر والاستنفار مجدداً.
فحاكمو لبنان اكتشفوا ان التحاقهم بالمشروع الغربي المؤيد لـ«اسرائيل»، ليس مسهّلاً بالقدر الذي ظنوا.
وحكام «الاعتدال» العربي، وهو على أصناف، أصيبوا بالذعر.
فنظام من أنظمتهم، صالح «اسرائيل» على دم عشرات آلاف الشهداء من شعبه وجيشه. وكان في الصلح إذلال له، إذ مُنع من نشر جيشه على كل أرضه، وهو اليوم يجبر على إجراء انتخابات تعدّدية، يجهد في تزويرها ليمنع من يعارضونه من اكتساح برلمانه.
ونظام آخر صالح صلحاً مذلاً لم يُرجع إليه الأرض إلا نظرياً، ومعظم شعبه من الفلسطينيين وهو مؤيد لقتال العدو حتى تحرير فلسطين.
ونظام ثالث، يبدي الغرب اليوم إعجابه به وتأييده له، بعدما طبّل لديموقراطيته الواعدة، التي تجلّت بأبهى صورها في انتخاب نصف أعضاء المجالس البلدية، فيما مقدرات البلاد وثروتها النفطية الهائلة في أيدي بيت واحد من أربعين أخ وأولادهم.
فهل يمكن هذه الأنظمة ان تنظر الى تحرك شعب لبنان لاستعادة أموره من أيدي من لم يعد يأتمنهم، نظرة التأييد، فيما يهدّد هذا التحرك بتحريك شعوبها وخروجها من القمقم الذي يراد تأبيد حبسها فيه.
أما الدول الإمبريالية وروّاد الاستعمار الجديد، فهل يمكن ألّا يتحركوا ضد أي انتفاضة جماهيرية تسهم في فتح أعين جماهير الدول العربية والاسلامية وجماهير العالم الثالث وكل المستضعفين في العالم، على إمكانية تغيير واقعها بالقضاء على مستغليها وسالبي إرادتها، الأمر الذي سيقضي بالضرورة على كل المصالح غير المشروعة المفروضة على العالم بالقوة، ويكنس بالتالي كل الامبراطوريات الحديثة.
لكل ذلك يتحرك هذا الحلف غير المقدس لمواجهة جماهير لبنان، البلد الصغير. إلا ان من صمدوا في وجه آلة الحرب الأقوى في الشرق الأوسط، والمدعومة بآخر أجيال المعدات العسكرية الأميركية، لن يجدوا كثيراً صعوبة في الانتصار على هذا الحلف، وفي ذلك مفخرة لهذا الشعب محدود العدد، لانه يفتح الطريق مجدداً أمام كل الشعوب المقهورة للتحرك الذي بدأت بوادره بالظهور، وقد عاينّاها في المؤتمر العالمي لنصرة المقاومة، بعدما عاد الى الشعوب الأمل الذي خبا مع استفراد «الجبار الأميركي» بالعالم، منذ أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
إننا سننتصر وستكون معنا كل الشعوب في مصر والأردن والسعودية وسائر أقطار الوطن العربي وكل الشعوب التائقة الى الحرية والعيش الكريم.
* استاذ جامعي