نظام مارديني *
قد يقضي الفلاسفة والمتحزّبون الأميركيون سنوات عديدة وهم يناقشون أسباب إخفاق «الجمهوريين» في الانتخابات الأخيرة، وما إذا كان «الديموقراطيون» يستحقون الفوز فعلاً في انتخابات الكونغرس 2006، والسيطرة على مجلسي النواب والشيوخ. وذلك بعدما خسر «الجمهوريون» مجلس النواب الذي يعتبر واسطة عقد الثورة الجمهورية، التي هلّت على الولايات المتحدة منذ عدة سنوات. إذ لم يكن يحتاج «الديموقراطيون» إلى أكثر من 15 مقعداً للسيطرة على مجلس النواب، وهو ما نجحوا في تحقيقه على نحو يدعو إلى الإعجاب مخترقين صفوف «الجمهوريين» كما يخترق سكين حاد قطعة الجبن.
فعلى رغم الجهود الحثيثة التي بذلها «الجمهوريون» لتحويل الانتخابات إلى مقارنة صادقة مع الحزب الديموقراطي، فقد نجح «الديموقراطيون» في تركيز اهتمام الناخبين على أمر واحد فقط هو الحزب الجمهوري، لا الفلسفة الحقيقية التي ينبني عليها. وهكذا تكبّد «الجمهوريون» الخسارة الفادحة التي تبدت أمام المراقبين.
لقد خسر «الجمهوريون» الانتخابات لأنهم تصرفوا مثل سياسيين من دون ضمير، هزتهم الفضائح وانعدام الكفاءة، لا لأنهم أبرياء متطهّرون، ويعتبر العراق ولبنان نموذجين لانعدام الكفاءة عند الإدارة الجمهورية المحافظة.
ففي العراق، أقام الأميركيون في البداية حكماً مباشراً فيه، بعدما حلّوا الجيش وكل أجهزة الدولة الأخرى، وعيّنوا قنصلاً إمبراطورياً أو مندوباً سامياً أميركياً هو الجنرال غارنر أولاً ثم بول بريمر. لكنهم أدركوا أن الحكم المباشر لن ينجح، فلجأوا إلى اللعبة البرلمانية والديموقراطية. ولكن بدلاً من البحث عن «واجهة وطنية» عابرة للمذاهب والعشائر، أقاموا نظاماً فئوياً يكرس الانشطارات المجتمعية، ويدفع فئات المجتمع العراقي إلى «تناوب الثورات».
الثورة الآن في شريحة مهمة من المجتمع العراقي هي «السنة»، لكن الأمر لن يطول على الأرجح قبل أن تنتقل إلى «الشيعة»، وخاصة إذا ما واصلت واشنطن غزلها مع الأولين وضغوطها على الآخرين. وفي كلتا الحالين، لن يعرف العراق الاستقرار ولا الاحتلال أيضاً.
أما مع المسألة اللبنانية، فهناك تساؤل للمراقبين عن مستقبل السياسات الأميركية الرامية إلى نشر الديموقراطية في المنطقة العربية الآن، ومصير الأجندة الأميركية الخاصة بالشرق الأوسط الجديد الذي أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عشية العدوان «الإسرائيلي» على لبنان، بأن لبنان سيكون مكان مولده، غير أن إخفاقات الإدارة الأميركية المتكررة دفعت الرئيس السوري بشار الأسد إلى إعلان أن الشرق الأوسط الذي ولد في لبنان هو شرق أوسط إسلامي قومي معادي لأميركا. وتبعه بعد ذلك تصريح للرئيس الإيراني أحمدي نجاد عن ولادة شرق أوسط إسلامي في المنطقة، وهو ما دفع روبرت ساتلوف، وهو مدير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، إلى القول: إن تصريح رايس في بداية العدوان «الإسرائيلي»، كان كلاماً سابقاً لأوانه، فالأمر ما زال أمامه وقت. وفي المقابل، علينا أن نعمل بقوة لنتأكد أن الشرق الأوسط الذي تحدث عنه بشار الأسد لن يتحقق أبداً. وهذه النظرة هي نظرة مبسطة ولا تمت بصلة كبيرة إلى واقع المنطقة. ولهذا السبب أظهر الرئيس الأميركي جورج بوش وإدارته كثيراً من الصعوبة في ترجمة خطابهم في ما يتعلق بالديموقراطية في الشرق الأوسط في صورة سياسات محددة، تطبق في كل دولة على حدة بطريقة جادة، وهكذا الأمر سيستمر باعتباره المشكلة.
إمي هواثورن، المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، قالت: يبدو أن الحرب اللبنانية ستكون لها عواقب مركّبة. أولاً في ما يخص أجندة الرئيس بوش في نشر الديموقراطية، لا أعتقد أن الحرب ثبّطت من حماسة الرئيس بوش بخصوص دور الولايات المتحدة في نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط، فالحرب لا تبدو أنها أحدثت تغييراً جوهرياً في وجهة نظره لناحية الصراع السياسي في المنطقة ــ كما يراه ــ بين «الإرهاب» و«الديموقراطية». فقد صرح بوش أكثر من مرة أنه ينظر إلى «حزب الله» باعتباره منظمة «إرهابية»، وفي المقابل يصف «إسرائيل» وأطراف أخرى على الساحة اللبنانية باعتبارها «ديموقراطية»، لذا يبدو أن الحرب اللبنانية قد عمّقت مفهومه بأن «الإرهاب» يجب أن يهزم (من طريق القوة العسكرية في الأساس) وأن القوى الأخرى «الديموقراطية» يجب أن تُقوّى.
الحقيقة أن الولايات المتحدة حتى الآن لم تضع أجندة واضحة المعالم في ما يتعلق بديموقراطية الشرق الأوسط. إذا كنا نعني بالأجندة الاستراتيجيا وتطبيق البرامج، فالإدارة الحالية بدلاً من تضع استراتيجيا واضحة المعالم فإنها طوّرت التزاماً بلاغياً قوياً، وهذا الالتزام البلاغي ــ الذي يعتمد على ادعاءات الرئيس بوش أنه لا يوجد تعارض بين «قيمنا ومصالحنا» ــ لم يكن أبداً خطاً واضحاً للسياسة. والمجموعة المحددة من البرامج التي طُوّرت منذ غزو العراق تبدو نسخة طموحة للبرامج القديمة.
الأزمة اللبنانية لم تعرقل أياً من هذه الأشياء. فما زال المسؤولون الأميركيون يتحدثون عن الديموقراطية واستمرار البرامج. إلا أن هناك اعتقاداً أن الأزمة اللبنانية ــ مصحوبة بالأحداث الأخرى التي شهدتها المنطقة مثل الانتخابات في فلسطين والعراق ومصر ــ جعلت الظروف المحيطة بالادعاءات الأميركية أقل تشجيعاً للإصلاح السياسي والديموقراطية، على مستوى العديد من الأصعدة. فقد ثبّطت الحماسة المساندة لأي أجندة إصلاح سياسي في المنطقة (والتي لم تكن مرتفعة بالأساس) وفي العديد من بلدان المنطقة، ودفعت بمنحنى الإصلاح السياسي إلى أسفل قائمة الأولويات على عدد من الأصعدة. ويمكن النظر إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد من خلال الفوضى التي تسببت بها السياسات الأميركية، وهنا من الصعب العثور على أي نجاحات نتيجة تلك السياسات. فالغزو الأميركي للعراق سينظر له كأكبر أخطاء السياسة الخارجية في هذا الجيل، وأما محاولات الهيمنة الأميركية على لبنان فخير دليل للتنبؤ بفشلها هو الجماهير المحتشدة في شوارع بيروت وساحاتها.
* كاتب سوري