زياد سعيد
ما استحال أخذه بقوة النيران الاسرائيلية المباشرة، وبالوجود الأميركي المباشر في قلب المنطقة، وبالتواطؤ السعودي والمصري المكشوف، يمكن أخذه اليوم بتسعير الغرائز الطائفية والمذهبية، وقلب الداخل اللبناني على بعضه وإعمال الفتنة بين مكوناته.
إنها بالنسبة إلى بعض اللبنانيين المعركة الفاصلة، والمؤجلة التي طال انتظارها، والتي لها وحدها، ان تقيم الحد بين ما يجب وما لا يجب، بين ما هو مسموح وما هو غير مسموح، ولأن الأمر على هذه الدرجة من المصيرية، لا حرج من اللجوء الى الكلام المباشر والأقصى، الكلام الذي يسمّي الأشياء بأسمائها، ويدفع بالأمور نحو بلوغ الحافة الأخيرة. الكلام الذي يمكن ان يساعد على جعل الخصم مكشوفاً أمام ثارات وأحقاد التاريخ والجغرافيا، ويساهم في إفقاده أسباب المنعة التي جعلته يتحدى الواقع، واقع التسليم النهائي بالمشيئة الامبراطورية التي أرادت ذات 11 أيلول إعادة رسم العالم وقسمته بين أخيار وأشرار.
ما تقدم هو مجرد تفصيل صغير في الاستراتيجيا التي تنفذها قوى السلطة اللبنانية بالاعتماد على دعم دول «الاعتدال العربي»، المدعومة بدورها من الإدارة الاميركية واسرائيل، وهي استراتيجيا تقوم على الاستفادة القصوى من الوقت الفاصل، الذي سوف يسبق تراجع الهجمة الاميركية التي أحرقت المنطقة، لمصلحة تعديلات، ربما تكون طفيفة، لاحت نذرها في شهادة وزير الدفاع الاميركي الجديد روبرت غيتس، وواقعة سقوط سلفه دونالد رامسفيلد، وارتفاع وتيرة الانتقادات الاميركية للحرب على العراق، الى بدء الحديث عن ضرورة فتح قنوات الحوار مع ايران وسوريا.
اللافت لبنانياً، أن الذي أدمن الكلام الموارب، أو الزئبقي، نجده اليوم يسترسل ويسهب في الكلام المباشر، يحدوه على ذلك شعور خاص بالخوف، بل الهلع، من اللحظة التالية، فالمعركة بالنسبة إليه باتت أكثر من واضحة، ووضوحها يرتبط حكماً ببداية هذا الجزر الأميركي، الذي لن تكون أكلافه بقليلة أبداً.
قبل اليوم لم تكن الأمور بالنسبة الى هذا الفريق على هذه الدرجة من الوضوح، كان لديه أن ثمة متسعاً من الوقت، بل كان يرى في الوقت عاملاً مساعداً لبناء قوته، فقعد ينتظر موعده الذي ضربه مع القدر الأميركي، أما اليوم ومن بعد الإقرار الاميركي بالفشل، والحاجة الى إدخال التعديلات على الوجهة التي سبقت نتائج الانتخابات النصفية، وما تلاها من سقوط الادعاءات المتفائلة بقرب تحقيق النصر، فقد بات «فريقنا» أمام مصير بائس قد لا يختلف عن مصير «صديق لبنان» جون بولتون. فكانت هذه الاندفاعة، المتلازمة مع إدراكه بأن الريح التي جعلته يركب هذا المركب تبدو اليوم في طريقها نحو تغيير المسار، وحينها ربما تضيع الفرصة التي جعل ينتظرها طويلاً ويراهن عليها، وفي سبيلها بنى الأحلاف والتحق بالسياسات التي زيّنتها له الأوهام.
الدرس البليغ الواجب حفظه مما يجري هذه الأيام هو أن الأمور مهما بدت راسخة لا تستقر على حال، فالتبدل سمة لا مناص منها، وكل دعوة مغايرة هي افتئات على الواقع.
دوام الحال من المحال، وما كان ممكناً بالأمس لم يعد كذلك اليوم، وما كان يمكن فعله اليوم قد لا يكون ممكناً غداً، إنها الطبيعة التي ترفض الثبات، فالثبات قرين للموت، وهو ما تعدنا به تلك الأكثرية التي أنهكت البلد بأكثر مما يحتمل أو يستحق، وعليها أن تعلم أن سعيها العنيد الى تأبيد السيطرة والاستئثار لم يعد ممكناً أبداً. إن السبيل المفتوح أمامها اليوم قد لا يبقى كذلك غداً.
ربما فوجىء بعضنا بكلام جون بولتون على القلق على مصير الحكومة اللبنانية، إذ لم يكن سهلاً أبداً إقلاق بولتون، فالرجل يكاد يكون مقدوداً من عنصرية صافية، تجعله منيعاً على أنواع القلق، ومع ذلك أمكن المعارضة اللبنانية نيل هذا الامتياز الكبير.