نصري الصايغ *
كان لا بد من إعادة صياغة الخلاف، من تحديد القضايا الحاسمة. فالحوار، ثم التشاور، بين الفرقاء المتنازعين، حط كلامه الأخير في مقام الشقاق. كان لا بد من جلسة حوار ختامية.
يقال: دخل الجميع بطريقة مختلفة. دخلوا مختلفين ليخرجوا أشد اختلافاً. الطاولة تغيّر شكلها، لم تعد دائرية. كانت مروّسة من الجهتين. والحضور توزّع، هنا على رأس الطاولة، وهناك على رأس آخر.
بدأ الكلام، قدم فريق 14 آذار خلاصته:
«إننا على يقين تام بأن قرار الإعدام قد صدر بحقنا جميعاً. وهو قيد التنفيذ. بدأ بالزميل معالي الوزير مروان حمادة، ولم ينته بعد، بمعالي الشيخ بيار الجميل. لقد نفّذ بفظاعة غير مسبوقة، بالرئيس الشهيد رفيق الحريري وزملائه، ثم بالكاتب والإعلامي سمير قصير، ثم بالقائد الشيوعي جورج حاوي، ثم بالإعلامية مي شدياق (وفشلوا) وبالنائب والإعلامي جبران تويني».
إننا على يقين مبرم، بأن النظام في سوريا قد اتخذ هذا القرار، وهم مستمرون في تهديدنا وملاحقتنا. لدينا شعور بأننا مقتولون غداً. الذي يقتلنا هو حليف لكم وأنتم لا تخفون ذلك...».
يصمت الجميع. لحظة تأثر وانتباه. رؤوس تدور. الجميع يرى الجميع. لعلّ المرشحين للقتل قد تحسّسوا أعناقهم.
انتهى الصمت المؤقت، وقدم فريق المعارضة خلاصته:
«إننا على يقين حاسم بأن قرار الإعدام قد صدر بحق المقاومة من أعلى المراجع الأميركية والإسرائيلية، وبتواطؤ، بل وبمشاركة دولية وتشجيع عربي. وهذا القرار هو قيد التنفيذ سياسياً، بعد محاولة تنفيذه ميدانياً على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً، دافعنا فيها عن المقاومة، وعن لبنان. اغتالوا القرى، دمروا الجسور، قصفوا المدنيين... قرار الإعدام الذي حاولوا تنفيذه دفعة واحدة، وبجريمة غير مسبوقة، نالنا منه الشهداء والمعوّقون والمهجرون.
إننا على يقين نهائي بأن الإدارة الأميركية، والقيادة الصهيونية، قد اتخذتا قرار إبادتنا ميدانياً وسياسياً، ولدينا شعور بأن المعركة لم تنته... والذي يقتلنا ويقتل أطفالنا ونساءنا وشعبنا اللبناني، هو حليف حميم لكم».
يعترض فريق 14 آذار: «نظام سوريا اتخذ قراراً ينفذه، وأنتم حلفاؤه. من يحمينا منه غير المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا؟
قاطع فريق المعارضة: حليفكم الأميركي اتخذ قراراً بإعدام المقاومة وفشل، ومن يحمينا منه ومن العدو الصهيوني، إن لم يقف معنا، أعداء وخصوم أميركا في المنطقة؟».
انتهى عرض حال الفريقين بما يلي:
فريق 14 آذار لا يستطيع حماية المقاومة من القرار الأميركي، وفريق المعارضة لا يستطيع حماية فريق السلطة من القرار السوري، (إذا كان القرار المرجح... حقيقياً)».
بعد بحث متبادل فتح فريق المعارضة ملف الحماية. سأل: من يحمي اللبنانيين؟ «لسنا مطمئنين الى التدخل الأميركي. فيلتمان سفير فوق العادة يتصرف كمندوب سام. لدينا يقين مؤكد بصحة الوقائع، أنه حاول ويحاول دفع لبنان الى حلف الاعتدال العربي المتحالف مع التطرف الصهيوني. لدينا إيمان راسخ بأن واشنطن منحازة فقط الى إسرائيل ولا تريد من لبنان إلا التسليم بالمنطق الإسرائيلي. شبعا مؤجلة، الطلعات الجوية مستمرة (وأميركا عينها ساهرة على سوريا). ولدينا شكوك أن فريق 14 آذار يسبق أحياناً الإدارة الأميركية في تنفيذ حتى ما لم تطلبه منه. إن حليفكم الأميركي يريد أن تقدموا له رأس المقاومة على طبق التنفيذ الخاسر للقرارات الدولية.
وعليه، فإن تأليف حكومة اتحاد وطني يعصم لبنان من الجنوح الى حلف مرفوض ومدمر ومأساوي. والحكومة الموحدة كفيلة بتحقيق الأمن الوطني والأمن السياسي والأمن الشخصي للجميع».
يعترض فريق 14 آذار: «الذي يده في النار ليس كالذي يده في الماء. انتهى العدوان الإسرائيلي، لكن احتفالات الاغتيال لقادة منا لم تتوقف. لا يحمينا ويحمي هذه الحكومة إلا المحكمة الدولية التي تتهرّبون منها، ونحن نعرف لماذا.
لم يكن أمامنا غير المحكمة الدولية لحماية أنفسنا وحماية لبنان ولردع القتلة. ساعدتنا أميركا، ساعدتنا فرنسا، إنهما مشكورتان. وضعتا ثقلهما لحماية لبنان من انتقام سوري فظيع وحاقد. ماذا؟؟ هل نقول لهما لا نريد مساعدتكما. لا تحمينا، نسبياً، إلا قوة الردع التي يمكن أن تؤمنها المحكمة الدولية. هربتم منها مرتين، إنكم لا تريدونها حماية لحلفائكم».
يقاطع فريق المعارضة: «بل نريدها، ولكن ليس وفق ما تريدونها ووفق ما يريدها الأميركيون. نحن نريدها لتقتص من المجرم ومن القاتل.
أميركا تريدها أداة سياسية لتجريم النظام السوري ولإسقاطه. إنها السلاح الجديد الذي تبنته الولايات المتحدة لابتزاز سوريا بالضربة القاضية. هي مستعجلة وتلح عليكم بعدم الإبطاء، علماً بأن المحكمة لن تبدأ غداً. الروزنامة الأميركية تقضي بتوظيف المحكمة لتسقط سوريا بالضربة القاضية. لسنا ضد محاكمة القتلة، لم تتركوا لنا حفنة من الوقت لتأمين إجماع وطني على محكمة لا تنتقي المجرم الذي يناسب أميركا، ولا تنفذ العقوبة بمن يستحقها.
ثم... ما هذه المحكمة المشرعة الأبواب، أليس فيها كل الخطر على السيادة وعلى الاستقلال؟».
يبتسم أقطاب 14 آذار ابتسامة سخرية. يقول واحد منهم: «كل الدلائل تشير الى ضلوع النظام السوري... والكل يتصرف على هذا الأساس إلا أنتم».
تجيب المعارضة: «نحن توما... نريد أن نضع إصبعنا في الجرح».
يأتي الجواب من الطرف الآخر: «جرحنا مفتوح، لكنكم لا تريدون أن تضعوا إصبعكم إلا لتخفوا الغابة التي خلفها... كفانا خلافاً، لننتقل الى نقطة أخرى».
يعود فريق المعارضة الى التذكير: «وحكومة الوحدة الوطنية».
يسمع الجميع همساً مفهوماً: «خيّطوا بغير هذه المسلة».
تصرخ المعارضة: «تسقط المحكمة إذاً».
يصمت الجميع... يتأمل الجميع... الجميع يرى أن الخطر يقرع الباب ويدخل من النوافذ كلها.
تقول السلطة وفريقها: «الشرعية معنا، الأكثرية النيابية معنا. لسنا وحدنا، العالم معنا، مجلس الأمن معنا، القرارات الدولية معنا. أميركا معنا... وفرنسا معنا... وأبواب الجحيم لا تقوى علينا. إننا سنستمر لأن الحكومة وأجهزة الحكومة الأمنية، وتحديداً الأمن الداخلي يؤمّن لنا الحماية. إذا خرجنا الى الحكومة الأمنية، إذا خرجنا من الحكومة فمن يحمينا. من يحمي الأكثرية من قرارات الإعدام، وعمليات الاغتيال؟ الحكومة خيمتنا وملجأنا، والسرايا مأوانا. لن نخرج من هنا إلا على رؤوس الحراب، إذا استطعتم الى ذلك سبيلاً».
تتحول الطاولة المروّسة الى شارع مسنون وساحة شاسعة.
يتراءى للجميع مشهد الحشود:
يقول واحد: «كل شارع يقابله شارع».
يقول آخر: «الشارع طائفي أو طوائفي».
يقول آخرون: «فليكن.. لا خيار أمامنا. بلد القضايا الكبيرة، بلد الخوف على الحرية والخوف على المقاومة، ينتهي به المقام في الشارع ليصير: السنة والشيعة في مواجهة، لا يكفي أن يرفضها طرف واحد. الطائفية تحتاج الى تسعير طائفة لا أكثر. يصبح لبنان جحيماً».
سؤال: «هل نحن ذاهبون الى الجحيم؟».
جواب: «إننا في الطريق إليها».
هل من خيار آخر؟
لا جواب.
خرج الجميع، ولم يجدوا مخرجاً لصيانة المقاومة، أو لمحاكمة المجرمين، أو حماية المرشحين للقتل أو... لكنهم خرجوا واستقرت الطاولة المسنونة الأطراف في مكانها.
سؤال: الى متى؟
ملحوظة: «يا إلهي! ملّلا بلد»، أقدس ما فيه ينتهي به المقام الى مرتبة الفتنة.
* كاتب لبناني