مشير باسيل عون *
العنف هو صورة التخلّف الحضاريّ يرتكبه الإنسانُ حين تسقط عنه كرامتُه الإنسانيّة. وما الفاجعة البكماء التي ابتلي بها اللبنانيّون حين استشهد بيار أمين الجميّل في أبشع جريمة سياسيّة شهدها الوطن اللبنانيّ سوى الدليل الدامغ على سيادة لغة العنف في أرجاء الوعي السياسيّ اللبنانيّ. ولشدّة الإجرام في اقتراف هذا العنف المنكر، ينتاب اللبنانيّين كلّهم شعورٌ عميقٌ بالاشمئزاز والقرف والقنوط. وبما أنّ معظم الجرائم السياسيّة التي يُبتلى بها الوطن اللبنانيّ في الآونة الأخيرة تصيب أهل النخبة اللبنانيّة المسيحيّة، من مفكّرين وسياسيّين وإعلاميّين، فإنّ العقل اللاهوتيّ المسيحيّ لا يسعه سوى الانتفاض الفكريّ والمواجهة الروحيّة الصارخة. فهو، من طبيعته، عقلٌ يستلهم روحيّة السيّد المسيح ومبادئ الإنجيل وقيَم الشرعة الكونيّة لحقوق الإنسان. فلا يستطيع أن يناصر سوى الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة التي يقترب فكرُها وقولُها وعملُها من هذه الروحيّة والمبادئ والقيَم. ولذلك شاع عن العقل اللاهوتيّ المسيحيّ أنّه يلتزم أشدّ ضروب الحياد السياسيّ ابتعاداً عن الاصطفاف السياسيّ والمحازبة الإيديولوجيّة والمشايعة المنفعيّة. ومع أنّ الوجود المسيحيّ في لبنان يتّصف بخصوصيّة ينفرد بها عن سواه من صيَغ الانتماء المسيحيّ في القارّات الأخرى، فإنّ العقل اللاهوتيّ المسيحيّ في لبنان ما خرج إلاّ في النادر عن هذه الحياديّة الإنجيليّة. وهو عقلٌ يتشارك فيه أصحابُ السلطة الدينيّة المسيحيّة، وأهلُ الفكر المسيحيّ، وأبناءُ الرعيّة المسيحيّة.
وحين أتحدّث عن الحياد السياسيّ في اللاهوت المسيحيّ أشير إشارةً واضحةَ الدلالة إلى الموقفَين اللذين يمكن أن يقفهما المسيحيّون من قضايا الالتزام السياسيّ في الوطن اللبنانيّ. فهم إمّا أن يكتفوا بالإعلان الكلاميّ عن مضامين الروحيّة والمبادئ والقيَم التي يعتنقونها، وإمّا أن يلتزموا هذه المضامين التزامَ النضال الفعليّ في القرائن التاريخيّة المناسبة لواقع التفاعل الحضاريّ الكونيّ. ومن الواضح أنّ العقل اللاهوتيّ المسيحيّ يروم أن يحمل حيادَه على المعنى الثاني. وهو المعنى الأبلغ والأدقّ والأعسر.
إذ إنّ واقع اللبنانيّين المسيحيّين في اليوم القائم مرتهنٌ أشدّ الارتهان لقرائن المواجهة السياسيّة الكونيّة بين ثلاث من الكتل الإيديولوجيّة المتصارعة. الكتلة الأولى تتزعّمها الإدارةُ الحاكمة في الولايات المتّحدة وتؤيّدها إسرائيل وبعض الدول الأوروبّيّة والآسيويّة والأفريقيّة. والكتلة الثانية تقودها إيران وبعض الدول الإسلاميّة وغير الإسلاميّة في العالم الثالث والمنظّماتُ العالميّة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة، فيما الكتلة الثالثة يتصدّرها المتّحدُ الأوروبّيّ في معظم أعضائه وينضوي تحت لوائها سائرُ الدول الأخرى التي ما زالت تثق بشرعة حقوق الإنسان وبفاعليّة منظمة الأمم المتّحدة.
وقد ينتاب هذا التقسيم شيءٌ من البراءة السياسيّة والتبسيط في إدراك طبيعة الولاءات بين الكتل الكونيّة الكبرى. غير أنّ الأمر الثابت في هذه المقاربة السياسيّة هو أنّ العقل اللاهوتيّ المسيحيّ اللبنانيّ عاد لا يثق بهذه الكتل الثلاث لأسباب تختلف باختلاف المذاهب التي تذهب إليها كلُّ كتلة على حدة. فالكتلة الأميركيّة الأولى تخطئ أفدح الأخطاء لأنّها تعتمد شرعة حقوق الإنسان في داخل أسوارها ولا تعتمدها في سياساتها الخارجيّة، ولأنّها تناصر حتّى العمى الفكريّ السياسةَ الإسرائيليّة المستكبرة الغاصبة الظالمة. والكتلة الإيرانيّة والإسلاميّة الثانية تعتمد شرعة حقوق الإنسان، وقد عُدِّلت صيغتُها بعض التعديل، في خارج أسوارها وفي سياساتها الخارجيّة المناصرة لحقوق الشعوب والمستضعين والمظلومين، ولكنّها، لأسباب تتّصل بمعتقداتها الدينيّة، لا تعتمدها في كامل مقتضياتها داخل أسوارها. وأمّا الكتلة الأوروبّيّة الثالثة، فهي تروم أن تعتمد شرعة حقوق الإنسان في داخل أسوارها وفي خارج أسوارها، ولكنّها لا تلتزم التزام النضال الفعليّ والتضحية الصادقة بالمصالح الذاتيّة في سبيل الانعتاق من المحور الأميركيّ الإسرائيليّ.
فإذا صدق مثل هذا الوصف السياسيّ، كان لا بدّ للعقل اللاهوتيّ المسيحيّ في لبنان أن يحمل حيادَه السياسيّ على معنى التأييد المشروط للكتلة الأوروبّيّة الثالثة، من غير أن يتخلّى تخلّياً كاملاً عن مساندة الكتلة الإيرانيّة الإسلاميّة في نضالها النبيل من أجل مساندة الشعوب المقهورة ومحاربة الاستكبار والاستغلال والاستكبار. ويبدو لي أنّ الخطاب اللاهوتيّ المسيحيّ في لبنان، حين يتناول قضيّة الوجود المسيحيّ السياسيّ الحرّ، يأنس إلى هذا المعنى في الحياد السياسيّ، ولو أنّ بعض الأصوات اللاهوتيّة تتوق إلى تطهّر مسيحيّ سياسيّ يبلغ إلى حدود الإخلاء الذاتيّ الفرديّ والجماعيّ. وفي هذا أسمى مثُل الشهادة المسيحيّة. غير أنّ مقولة الإخلاء الذاتيّ، ولئن صحّت في مستوى الشهادة الفرديّة، لا تصحّ في مستوى الشهادة الجماعيّة، لأنّ الحفاظ على حياة الجماعة مسؤوليّة أخلاقيّة كونيّة يؤيّدها الشرع الإلهيّ.
وأمّا إذا أتينا كلُّنا اليوم إلى معاينة الواقع السياسيّ المتفجّر في لبنان، فإنّنا نعاين اللبنانيّين المسيحيّين يبحثون عن موقف سياسيّ مسيحيّ يصون لهم وجودَهم السياسيّ الحرّ، ويُثمر فيهم شهادةَ المعايشة المسيحيّة الإسلاميّة العَلمانيّة، ويضمن لهم إنفاذ شرعة حقوق الإنسان في تضاعيف الخصوصيّة التاريخيّة اللبنانيّة. ومع أنّ هذه الأهداف الثلاثة تتعارض بعض التعارض بسببٍ من طبيعة الانتماءات الدينيّة، فإنّ الاستفسار المسيحيّ السياسيّ الأبلغ ينبغي له أن يصيب مسعى اللبنانيّين المسيحيّين إلى بلوغ هذه الأهداف الإنسانيّة الثلاثة. فكيف يستطيع العقل اللاهوتيّ المسيحيّ أن يضمن للخطاب السياسيّ المسيحيّ في لبنان القدرةَ الفكريّة والعمليّة لبلوغ هذه الأهداف بالاستناد إلى ضرب من الموالاة السياسيّة يصطفي من هذه الكتل الثلاث الخلاصةَ السياسيّة التي يعاين فيها أضمن السبُل التي تُبلغه إلى مرماه اللبنانيّ الأقصى ؟
فإذا افترض المرءُ أنّ اللبنانيّين المسيحيّين أصبحوا قادرين على افتضاح المسلك السياسيّ المسيحيّ في الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة المسيحيّة التي غالباً ما تخلط بين خير الوطن اللبنانيّ ومنفعة الزعيم المسيحيّ، كان لا بدّ من فهم الحياد السياسيّ في اللاهوت المسيحيّ فهماً متجدّداً مبتكراً لسبيل أصيل من الالتزام السياسيّ المسيحيّ.
وممّا ينجم عن هذه المقاربة اللاهوتيّة السياسيّة أنّ اللبنانيّين المسيحيّين لا يمكنهم أن يعتصموا بحياد سياسيّ يسكت عن مظالم إسرائيل وجرائمها المتكرّرة في أرض فلسطين، ويساير تجلّيات المنفعة الأميركيّة المتعاظمة، ويواطئ تخلّف الأنظمة العربيّة وانعطابها البنيويّ، ويساوم الإيديولوجيّات الدينيّة التي تمتهن قيمة الإنسان في كرامته وحرّيّته وحقوقه الإنسانيّة. إذ إنّ الإنجيل ليس كتاب الحياد السياسيّ، بل هو رمز مناصرة المظلوم والفقير والمضطهَد، وعنوان تطويب القادر المحبّ على صورة السيّد المسيح.
ولقد أتى زمنٌ على لبنان أساء فيه أكثرُ اللبنانيّين المسيحيّين إدراكَهم لمعنى الحياد السياسيّ. وهو زمنٌ أساء فيه بعضُ اللبنانيّين المسلمين وأغلبُ العرب المسلمين إدراكَ معنى الحياد في الفكر المسيحيّ اللاهوتيّ، فنعتوا اللبنانيّين المسيحيّين إمّا بالانعزاليّين المستكبرين، وإمّا بالتواطؤ مع الغرب، وإمّا بالسماويّة الملائكيّة. وأمّا الأنظمة العربيّة، فاختبرت في إيقاع سياساتها ونبض أقوامها بعضاً من الانفصام في موقفها من لبنان. إذ إنّ جميع العرب أو أغلبهم طالبوا بالحفاظ على صيغة لبنان الفريدة، وجميعهم أو أغلبهم استخدموا لبنان ليصرفوا فيه احتقان مجتمعاتهم وليستغلّوا منه هبة الحرّيّة العفويّة التي ينعم بها، تعظيماً لنفوذهم وتوطيداً لسلطانهم.
* أستاذ الفلسفة والحوار في جامعة الروح القدس (الكسليك)