سعد الله مزرعاني *
أتذكر جيداً، أنه في كل مرة كان عليّ أن أفسر لأحد المهتمين من الأجانب الذين يقصدون لبنان (في المناسبات الكثيرة التي تستدعي مثل هذه الزيارة)، بعض جوانب الأزمة اللبنانية، كنت أنتهي بأن أشفق على السائل أولاً، وعلى نفسي ثانياً.
وكان ذلك، بالتأكيد، بسبب كثرة العوامل المؤثرة في توليد الأزمات اللبنانية: العوامل الداخلية والعوامل الخارجية. وبسبب تفاعل هذه العوامل، على ما فيهما، هما، أيضاً، من الأزمات الفرعية الكثيرة التي تحولت بسبب التقادم، وعدم المعالجة، إلى حالات معقدة وراسخة وممتنعة على المعالجة والحلول.
وفي هذا السياق استسهل كثيرون اشتقاق استنتاجات «جديدة»، من نوع أن لبنان مختلف، وأن ما يصح في سواه لا يصح فيه. وذهب نفر غير قليل من المنظرين إلى أن كيان لبنان و«صيغته» شيء واحد: أي كيانه ونظامه السياسي. وفي نطاق ذلك برزت أحزاب شيدت الأساسي من برامجها، على أنها «أحزاب الصيغة». وكان أبرز هذه الأحزاب وأبعدها تأثيراً حزب الكتائب اللبنانية...
منذ الاستقلال عام 1943 تكاد أزمات لبنان تتحول إلى أزمات دورية (كل 15 سنة تقريباً). وهي أزمات كبيرة وخطيرة، اتخذت أحياناً طابع حروب أهلية واسعة ومديدة. ونكاد نكون اليوم، للأسف، على أبواب حرب جديدة، ستكون بالتأكيد في حال حصولها، أخطر وأفدح أذى من سابقاتها.
ويطرح السؤال: لماذا؟ لماذا تحصل الأزمات؟ ولماذا تمتنع على المعالجات الشافية والنهائية؟ ولماذا يعجز اللبنانيون عن إيجاد الحلول بأنفسهم، فيتضاعف الضرر والخسارة، إذ إن المعالجات دائماً ما أتت من الخارج، وجاءت مؤقتة وجزئية ومشوّهة ومكلفة...
لا نريد من هذه المقدمة إلغاء الخصوصيات التي تميز أزمات لبنان في هذه المرحلة بالذات. ولا نريد بالطبع، تجنب الحديث عن مجموعة التناقضات الناشطة والمتفاعلة في الواقعين اللبناني والإقليمي. الهدف هو محاولة إبراز العناصر العامة في أزمات لبنان واللبنانيين، ومحاولة تسليط الضوء على الخلل القائم والمستمر في نظام علاقاتهم. ومن خلال ذلك، محاولة اقتراح المعالجات التي نحسب أن من شأنها عبر الذهاب أبعد وأعمق نحو أساس الأزمات، الانتقال بلبنان إلى مسار جديد صحي وطبيعي ومستقر وحصين ومتطور وديموقراطي...
يجب القول بدءاً، إن الأزمة الراهنة كسواها، قد وقعت أسبابها ومعطياتها، على واقع متأزم أصلاً. وإذا كان البعض يؤرخ لهذه الأزمة ببداية الدخول السوري الى لبنان، قبل حوالى ثلاثين سنة، ويختصر أسبابها بذلك، فإن تجاهل هذا الأمر، كحصرية وضع أسباب الأزمة فيه، مجتزأ وغير دقيق ومغرض في أكثر الأحيان!
راهناً، نستطيع أن نضع الغزو الأميركي للعراق محطة نوعية في تحولات الوضع في «الشرق الأوسط الكبير» عموماً، وفي لبنان خصوصاً. بعد ذلك التاريخ اكتسب لبنان أهمية استثنائية في جدول الأعمال الأميركي. وكان ذلك، أساساً، بسبب النفوذ السوري في لبنان، وبسبب رغبة الأميركيين في الضغط على سوريا، هنا أيضاً، أي في لبنان، من أجل إضعاف نظامها، ومن أجل حملها على تغيير موقفها من الغزو الأميركي للعراق، بعد أن اتهمت وضبطت متورطة (حسب الأميركيين) في مناهضة الاحتلال الأميركي للعراق، وفي تزويد المقاومة بالسلاح والمال والتدريب والتسهيلات من كل نوع...
كان الوضع اللبناني بدوره، مثقلاً بالتناقضات والأزمات. وكان الدور السوري فيه موضع اعتراض فئات وقوى سياسية لبنانية إضافية. فلقد انتقل بعضها حديثاً، وبعد تعاظم الرغبة السورية في الهيمنة المباشرة، وبعد ازدياد دور الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية، إلى موقع الاعتراض أو حتى المعارضة الكاملة.
لقد أطلق الاحتلال الأميركي للعراق طوراً جديداً من مشروع الهيمنة الأميركية، الشامل. وبات لبنان بسبب ذلك، وبسبب تناقضات الوضع اللبناني والإقليمي السابقة، حقلاً صاخباً للصراع وللتحولات وللانقلابات!
كان يمكن أن نلاحظ في مجرى التطورات الدراماتيكية المتلاحقة، أن التاريخ، نسبياً، يعيد نفسه. فسرعان ما تبددت الآمال التي علقها البعض على تدشين طور جديد من التوجهات والعلاقات والممارسة تعطي للشعارات المرفوعة آنذاك معنى حقيقياً: عنينا شعارات الحرية والسيادة والاستقلال. لقد تم باسم توحيد الشعب اللبناني، بناء تراصف طائفي جديد. وباسم رفض الوصاية السورية، إحلال وصاية أميركية (وفرنسية) بديلة. بين شعارات المعارضة آنذاك الكف عن استخدام لبنان ساحةً. لكن ما حصل هو زجّه في الصراع الإقليمي من موقع آخر، في خدمة معركة تغيير لسياسة سوريا أو حتى لنظامها، بما لا طاقة له عليه ولا مصلحة لشعبه فيه.
إن اللحظة السياسية التي سنحت لإخراج القوات والاستخبارات السورية من لبنان، لم تتحول إلى فرصة تاريخية لبدء مسار جديد في العلاقات اللبنانية ــ اللبنانية، واللبنانية ــ السورية واللبنانية مع الخارج، بشكل عام.
وهكذا فالمتغيرات التي حصلت في ربيع العام الماضي خصوصاً، لم تنطو، إذاً، على تحول نوعي، بل كانت مجرد عملية لإعادة ترتيب التوازن في نطاق النظام السياسي ونظام العلاقات إياه، من دون أي إضافة نوعية جديدة.
ونستطيع أن نلاحظ، دونما صعوبة، أن القسم الأعظم من القوى قد انضوى في نطاق المعادلة «اللبنانية» التقليدية: الصيغة الطائفية لتنظيم وإعادة تنظيم العلاقات الداخلية، وصيغة الالتحاق والتبعية للقوى المقررة، المعنية، في الخارج. (لا يسري هذا الأمر، بالطبع، على الجميع، ولا بالدرجة نفسها بالمقارنة، بين هذا الطرف أو ذاك). بكلام مباشر، إن تحولات ما بعد الانسحاب السوري ( الذي كان مطلوباً) لم تنقل لبنان من واقع إلى واقع جديد، وإن كانت قد نقلته من موقع (أو خندق) إلى موقع (أو خندق) مقابل.
ولم تضف التطورات اللاحقة حتى هذه اللحظة، جديداً نوعياً، على الوضع اللبناني. ينطبق ذلك حتى، على مرحلة خطيرة بحجم العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، المدعوم بشكل كامل من واشنطن. فلقد فضح هذا العدوان هشاشة العلاقات ما بين الأكثرية والأقلية، وفجر الألغام المؤجلة والكامنة في ما بينهما. والصراع الحالي حول الحكومة، هو، إلى حد كبير، امتداد للصراع الذي فجره العدوان الإسرائيلي وحلقة أساسية من حلقاته.
لا يتسع المقام هنا للذهاب أبعد في تناول العدوان وأسبابه وتداعياته (دولياً وعربياً ومحلياً). بيد أنه يجب القول بأنه قد عمّق من الأزمات اللبنانية. وهو مرة جديدة، وربما هي الأكثر خطورة، قد كشف أشكال الخلل في الوضع الداخلي اللبناني. إننا أمام أزمة تذهب عمقاً واتساعاً. وأمام احتمالات اهتزاز السلام الأهلي الهش أصلاً. وأمام احتمال أزمة وجودية قد تطيح هذه المرة، وفي سياق مشروع الهيمنة الأميركية، ما تبقى من مقومات وجود لبنان ووحدة مؤسساته وأبنائه.
... ولا قدرة للبنانيين، مرة جديدة، على معالجة أزماتهم.
وليس بدون معنى، أن يتهم كل طرف الآخر بأنه عميل وتابع لجهة خارجية، وأنه منفذ لرغباتها ومصالحها على حساب لبنان...
وليس بدون معنى أيضاً أن أول ما يتعطل أو ينقسم أو يشل، إنما هو المؤسسات الدستورية اللنبانية. ففي الأوقات المصيرية تفقد هذه المؤسسات دورها وسلطتها ومهماتها. ويكرس ذلك حقيقة افتقار لبنان، عبر نظامه السياسي ومؤسسات هذا النظام، إلى مرجعية داخلية، كما هو الأمر، في أي نظام سويّ، لامتصاص الأزمات أو معالجتها، او ابتداع واشتقاق الحلول لها في نطاق منظومة العلاقات الداخلية.
ويشكل ذلك بطبيعة الحال، العامل الأول، الرامز إلى الخلل في الوضع اللبناني، أي في النظام السياسي اللبناني، وتحديداً، بسبب ارتكاز هذا النظام على مبدأ التحاصص الطائفي، على حساب وحدة الدولة ومؤسساتها، وعلى حساب الوحدة الوطنية، وعلى حساب سلامة المواطنة والانتماء للوطن...
ويتداعى عن هذا الخلل أشكال أخرى لا تقل خطورة. فالسيادة المنتهكة من الداخل، تستدعي في لحظات الأزمات، أشكالاً من الممارسات التي تقود إلى إنتهاك السيادة من الخارج. والدويلات التي تنمو في كنف الدولة الواحدة وعلى حساب الكثير من عناصر قوتها المادية والمعنوية، وتُشرّع أشكالاً أخرى من الخلل وتحميها: سلامة الولاء. تحديد الأولويات. عدم المحاسبة. تغطية الارتباكات والفساد والهدر والاقتطاع. سوء استخدام السلطة...
وفي امتداد ذلك، ليس غريباً أن تضيع الثوابت الوطنية أو أن تتناقض. وليس في الإمكان، مثلاً، قيام مؤسسات حديثة أو احترام الدستور والقوانين. ليس ممكناً أيضاً، الاتفاق على تحديد منطقي ومنسجم مع مصلحة البلاد، للصديق من العدو...
ليس ذلك فقط، بل إن شعب لبنان الذي استحق الاهتمام وأحياناً الإعجاب، بسبب، «لمعاته» المتعددة، قد وجد نفسه، أكثر من مرة، يضيِّع لحظات وإنجازات تاريخية: هكذا حدث بالنسبة للمساهمات الرائدة لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي أنهكها التقاتل الداخلي عام 1986، ولانتصار عام 2000 الذي بدده التحاصص وغياب المشروع الوطني، وللحظات المهيبة في 14 آذار التي جوّفها الارتباط بالمشروع الأميركي، وللانتصار المدهش على العدو الإسرائيلي في الصيف الماضي الذي يجتهد الأميركيون وحلفاؤهم في لبنان، من أجل منع توظيف نتائجه لمصلحة إضعاف مشروع الهيمنة الأميركية...
وبعد، ماذا عن البدائل والأدوار والمسؤوليات؟ هذا ما سنتناوله لاحقاً في مقالة أخرى.
* عضو قيادة الحزب الشيوعي اللبناني