شفيق جرادي *
اعتادت منهجية المعالجة الاصطلاحية عند العرب أن تنطلق من تحديد المصطلح في معناه اللغوي ثم القيام بتحليله،.. لما لذلك من إجلاء للمعنى... ولعل هذه العادة المنهجية تفيد كثيراً في مقاربة الفهم وخاصة المصطلحات أو المفاهيم الملتبسة، ومنها مصطلح الحرية ومفهومها، التي ذهب المعالجون اللغويون الى أنها تعني الخلوص من الشوائب أو الرق أو اللؤم...
والخلوص هو حالة من التطهّر والتصفية الفكرية والنفسية يخلص بها المرء من أي قيد ورباط إكراهي يُسقط هويته الإنسانية ومعناها.. وما الرق إلا الصورة الحسية التي تظهر واقع طرف مُسْتَعبِد يتسلط على طرفٍ آخر هو المُسْتَعبَد بمنطق ومسلك ربوبي فوقي، ليفعل فيه ما يشاء ويعبث به هتكاً لحرماته وإفساداً لكيانه..
أما الصورة من طرف ثانٍ فهي تُظهر وجه الانسان الذي حُرِم إرادة وجوده العزيز وعيشه الكريم وحقه في بناء مستقبلٍ طموحٍ، وذلك إما بفعل المولد وما يحفّه من واقع معيشي مقهور بالفقر، والموقع الاجتماعي والطبقي، أو بفعل ما تستلزمه الأحداث من مجريات الحروب والعلاقة العنفية بين الأمم والجماعات...
وتحتضن الصورة الحسية بعداً معنوياً يشكل طبيعة العلاقة بين القاهر والمقهور، وعنوانها «الرق» وهي في مآلاتها تساوٍ بين الاثنين بعبوديةٍ تتمظهر عند الطرف القاهر بانحراف نفسي ضاغط يُنَمِّط قراراته ورؤيته بحيث يُفقده كل منابت الوعي الانساني ليصبح عبداً لجهله وهواه ورغباته الجامحة..
وتظهر عند المقهور بسلبه إرادة التحدي وحب الحياة. هذا ومن الممكن لنا مقايسة أو مماثلة الحال في الصورة الحسية على الحالات المعنوية سواء منها الفكرية أو النفسية...
فإن القيود هنا تتحول إلى عمى في الانقياد لما عليه السالف من الآباء، والتراث، والتقاليد والأعراف الناظمة... بحيث يصبح الانتماء بديلاً من القرار والرؤية.. والتقليد مجرد متابعة عمياء تفتقد كل موازين القراءة والتقويم النقدي وهو الأمر الذي يؤسس بالمقابل لفورات غاضبة تنساق نحو الرفض لمجرد الرفض، فتلعن ما سبق لأنه ماضٍ، وتعبث بالضمير والحاضر والمستقبل بغضبة لا تبقي ولا تذر...
ولعلَّ ما عليه الاتجاهات المتنازعة اليوم في إطار الموقف من الدين والقراءات الدينية، بل والسلوك الديني في نظرته إلى الحياة والنظم السياسية والاجتماعية، يقع تحت تأثير هذه الأحوال.. فمن التقليدية الدينية التي وصلت حد التسلف تحت عناوين السلفية والإحياء المحافظ على قداسة الحرف والمعنى الحرفي الذي جرَّ الى اختزال الحقيقة، وحصر الخلاص في الذات بما هي مجرد ماضٍ.. وجرَّ الى اختزال حق الحياة فيه وحده ليمنعها عن كل من سواه فيبيح المال والدم والعرض، كما يبيح حق التمثيل وادارة شؤون الجماعة... الى أصحاب النزوع الرافض للدين تحت عناوين الحداثة وما بعدها والعصرنة والتجديد الخالي من أي تقعيد أو ثابت يركن إليه كمنطلق للمستقبل، ما أسَّس لفوضوية وفلسفات عبثية وعدمية...
وفي ظني ان ذلك كله ناجم من فقدان معنى الحرية بما هي إرادة نقد ومسؤولية إعمار للإنسان والكون عبر اكتشاف ما فيهما من ذخائر وأسرار...
وقد سعت القراءة الإسلامية لتركيز معنى الخلوص كنافذة خلاص للحرية التي فطر الله الخلائق عليها، مسنداً إياها الى قاعدة الاستخلاف.. «إني جاعلٌ في الأرض خليفة».. وقاعدة الاستخلاف وإن شابهها البعض بقاعدة «الانسان على صورة الله» عند المسيحية إلا ان القراءة الاسلامية تمايز بين القاعدتين على أساسٍ جوهري إذ تعتبر ان «صورة الله» تؤول عند أصحابها بأن يأخذ الانسان موقع الشريك لله في رسم النظم الحياتية والاجتماعية والسياسية، بل والدينية الشعائرية التي تفضي إلى وضع معتقدات نابعة من دخالةٍ بشرية، احتاجت معها المؤسسة اللاهوتية إلى حصرها بتأويل لاهوتي سمّته تجسدات الروح القدس، وحصرية تفسيرية لا تسمح لغير المؤسسة الكنسية الرسمية بإقرارها...
بينما الاستخلاف يوازن بين أمرين:
الأول: اعتماد الأصول الناظمة للعبادة الطقوسية والحياتية من مصدرها الإلهي الذي يمثل النموذج الإرشادي للاجتهاد الاسلامي بمعناه الواسع، مع كل ما يقتضيه ذلك من إبداع مسؤول وحرية متوازنة في النقد والتقويم والاستكمال..
الثاني: فتح منافذ العقل والروح على المعنى المفتوح لأسرار الوجود والحياة والسنن الكامنة والمتولدة من العلاقة بين عناصر الطبيعة بعضها ببعض، والجماعات الإنسانية المتآلفة والمتخالفة، وبين الانسان والطبيعة، وأولاً وأخيراً من مصدر الوجود والحياة والمخلوقات بكل عناوينها ومستلزماتها العلمية والفكرية والانسانية.
وتشترط قاعدة الاستخلاف، مبدأ التوازن والاعتدال في حركة الحرية كسبيل لحل عقد الرق المادي والعبودية المعنوية. واذا كان من الصحيح ان هذا التوازن لا يتم إلا بوصول الانسان الى درجة الخلوص لله سبحانه، متخلصاً من كل ما سواه ليتخذ قراراته بإرادة حرة في ما يعي وما يسلك... فإن من الصحيح أيضاً ان هذا الاستخلاف لا يتم إلا بالانخراط التام في كل مقتضيات الحياة ومساراتها ليتكيف مع الضرورات حينما يقتضي الأمر التكيّف، وليُغيِّر المسارات حينما يكون المطلوب رسم وجوه مسارات جديدة وفاعلة لهيئة وجوه العلاقة الحياتية، من دون أن يعني هذا التغيير فتح القدرة على إرادة السطوة، إذ كل مآل الأمر لله «وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه» (الجاثية /14)... فالتسخير هو الإذن الإلهي بتصرف الانسان ليتحرك بحريته في الارتقاء بالوجود... وأيُّ عبث بهذه الغاية هو عبث بأصل المبدأ وبأصل الحق إذ جميع ما في السماوات والأرض منه وإليه سبحانه..
حتى الذات لا يؤذن للإنسان ان يلقي بها في عهدة أيٍّ كان لأنها ضمن موارد ما هو مستخلفٌ عليه. فعليه ان يحررها من كل ما يضيرها وما ينحرف بها لتكون ذاتاً عزيزة، وهنا الجهاد الأكبر، أو بمعنى آخر التحرير الأكبر لنيل الحرية الأسمى...
والعلاقة مع الناس ينبغي ان تحرر من ضير خناق المنطق الطوائفي والعشائري والمذهبي، فلا نرى الناس إلا على مسافة واحدة من حقهم في العيش والاعتقاد والتظلّل بفيء الحق والحرية «تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله» (آل عمران/85). فلا يصح ان نقع فريسة عبودية الرغبة باستعباد الآخر كما لا يصح ان نوقع ذاتنا الجمعية فريسة العبودية له.. وهنا يكمن منطق المقاومة الحرة التي هي عين الجهاد من أجل خلاص الحياة من كل تبعية للغابر من القناعات إن كانت ظلامية، وللعاتي من أهل الغزو والوصاية القاهرة لمملكة الحرية وإنسانها المسؤول..
بهذا النحو من العيش الحر يمكن ان نفكر في جسر العلاقة بين الذات والدين والمذهب لنخرج المذهب من المذهب فيكون مذهب الدين الذي يلتزم كل خصوصية شرط استكمالها بأفق الدين المفتوح على الذي لا تحده الحدود.....
والعلاقة بين الأديان لنخرج الأديان نحو الدين الحق.. والعلاقة مع الوطن لنعيد رسم معناه بحسب قوانين الحياة لا بحسب المصالح الضيقة وعفن الأهواء...
والعلاقة مع الأمم بحسب إرادة التغيير الحرة التي جعلها الله فينا، لا بحسب مخاوف المهزوم وهواجس المأزوم، والدين كما الوطن والإنسان يستحق نعمة الحرية الممنوحة من الله، وشكر النعمة الإلهية لا يكون باللسان وحده بل بأن يكون الحال والواقع حراً «وأما بنعمة ربك فحدِّث»...
* رئيس معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية