إيلي نجم *
لماذا يبحث الغرب عن مخرجٍ للمأزق الذي يعيشه العالم العربيّ والإسلاميّ، بعد نحو ألف عام تقريباً (من عام 800 إلى عام 1800 للميلاد) على توسّع هذا العالم وتألّقه في المجالين الثقافيّ والحضاريّ؟ أتراه يبحث عن مخرجٍ للمأزق الذي يعيشه هذا الغرب عينه في علاقاته المأزومة بقادة الرأي في هذا العالم من جهة، وبشعوبه من جهة أخرى؟
وكان الغرب قد تعامل، في الواقع، مع حاله حين تعامل مع العالم العربيّ والإسلاميّ، ذلك لأنّه رأى إلى هذا العالم من خلال مركزيّته الثقافيّة والحضاريّة وأحياناً العرقيّة، في نظرة جزئيّة وسلفيّة اختزلت قادة الرأي في هذا العالم وشعوبه في ماضيها الغابر وردّتها إليه، أو في نظرة آنيّة وضيّقة حشرت هذه الشعوب وأولئك القادة في حاضرها المأساويّ الراهن وأسرتها فيه.
يقول المستشرق الأميركيّ برنارد لويس في كتابٍ يحمل العنوان الآتي: «الإسلام والغرب والحداثة» إنّ انغلاق العالم العربيّ والإسلاميّ على حاله هو وراء أفوله. وبعد أن يفصّل ويحلّل، يرسم لويس مخرجين لا يرى ثالثاً لهما: إمّا العودة إلى الأصول الإسلاميّة المتشدّدة والتصدّي للحداثة الغربيّة، وإمّا استدخال الإرث العَلمانيّ والديموقراطيّ الغربيّ على طريقة مصطفى أتاتورك في تركيا القرن العشرين، بُعيد سقوط إمبراطوريّة بني عثمان. الواضح أنّ لويس يرى إلى العالم العربيّ والإسلاميّ في ماضيه وحاضره، ولا يتطلّع البتّة إلى ما يمكن أن تؤول إليه الشعوب العربيّة والإسلاميّة في صراعها المرير مع الغرب، وفي تعاملها معه ونظرتها إليه. أستدلُّ على ما أذهب إليه بالطريق التي اختطّها العقل العربيّ الجاهليّ وبالطريقة التي تعامل فيها هذا العقل، في القرن السابع للميلاد، مع الفكرة الدينيّة التوحيديّة الإبراهيميّة بوجهيها اليهوديّ والنصرانيّ. وكان الإسلام، الطريق والطريقة، وفيه مَثَلَ الرسول العربيّ أمام الله وامتثل لمشيئته.
في السياق عينه، اعتبر الوزير اللبنانيّ السابق جورج قرم، في كتاب صدر له بالفرنسيّة منذ مدّة، وهو يحمل العنوان الآتي: «شرق ــ غرب»، أنّ الغرب لا يمكنه أن يعزو العنف المستشري في العالم، والمتمثّل في ما تدعوه الولايات المتّحدة الأميركيّة «الإرهاب»، إلى «عجز الشعوب غير الغربيّة عن الاضطلاع بالحداثة». ذلك لأنّ هذه الحداثة، الغربيّة تحديداً، اعتمدت مبدأ «فصل الشأن الدينيّ عن الشأن الزمنيّ»، وأفضت إلى «استقلاليّة الفرد البشريّ»، وقامت على قراءة معيّنة لنصّ مسيحيّ إنجيليّ («ما لقيصر لقيصر وما لله لله»)، فلا يمكنها إذاً أن تعني العالم الإسلاميّ مثلاً حيث «لا رهبانيّة»، وتالياً لا سلطة دينيّة كما هي الحال في المسيحيّة. وبعد أن حثّ الغرب على الإقلاع عن نرجسيّته، دعا الوزير قرم إلى العمل على تحويل مفهومَي العَلمانيّة والحداثة بحيث نَنْزَع عنهما الطابع الغربيّ الغالب. فالعَلمانيّة (laïcité) تختلف في فرنسا عنها في إيطاليا وألمانيا وإنكلترا وتركيّا. وهي تحيلنا، في جميع الأحوال، على العلمنة (laïcisation) أي إلى اعتماد النظام العَلمانيّ الذي يمنع الحاكم من ممارسة أيّة سلطة دينيّة لقاء امتناع هذه السلطة عن ممارسة أيّ نشاط سياسيّ. والعلمنة تفترض الدنيوة أو العصرنة (sécularisation). أمّا العصرنة، فإنّها تقضي، بحسب الفيلسوف اللبنانيّ بولس الخوري، بنَزْع الطابع الأسطوريّ (démythologisation) عن المعتقدات، ونزع الطابع الخداعيّ (démystification) عن العبادات والأخلاق، ونزع الطابع المقدّس (désacralisation) عن النُظُم الاجتماعيّة الدينيّة، وأخيراً رفض تسلّط رجال الدين على الزمنيّات (décléricalisation).
لكنّ الفصل الذي تقضي به العلمنة يفترض وصلاً يسبقه ويتيح إمكانه، بمعنى أنّ الثاني هو شرط إمكان الأوّل. ولئن اختلف الوصل بين هذين الشأنين في البلدان المشار إليها، فقد اختلف الفصل بينهما. وعليه، فالفصل بين الشأنين في فرنسا، الكاثوليكيّة تقليداً، يختلف عنه في إيطاليا، حيث تقوم دولة الفاتيكان، مركز الكثلكة، وفي ألمانيا، مهد البروتستانتيّة، وفي إنكلترا، معقل الأنكليكانيّة. الواقع أنّ فلسفة «الأنوار» (Lumières) في فرنسا ليست مطابقة لتلك التي سادت في إنكلترا (enlightment) أو في ألمانيا (Aufklärung). أضف أنّ الأحزاب الديموقراطيّة المسيحيّة تنشط في فرنسا وإيطاليا وألمانيا فيما لا تنشط في إنكلترا. أمّا في تركيّا، فيبدو أنّ عسكرة النظام السياسيّ قضت بتبنّي عَلمانيّة هجينة حظرت قيام أحزاب إسلاميّة دينيّة...
والحقّ أنّ في وسعنا المرور على الوجه العَلمانيّ للديموقراطيّة من دون التوقّف عنده باعتباره إمكاناً تاريخيّاً عارضاً لا يلازم مفهوم الديموقراطيّة على نحوٍ حاسم وحتميّ ومطلق. ولقد بيّنتُ مراراً أنّ الواقع والتجربة، أيّ واقع وأيّة تجربة، لا يمكنهما أن يستنفدا أيّ مفهوم. وعليه، فالظهورات التاريخيّة للمفهوم لا يمكن أن تصل بهذا المفهوم إلى نهاياته.
وفي ما خصّ الحداثة، فإنّ دعوة الوزير اللبنانيّ موجّهة بالطبع، وفي الأساس، إلى العالم العربيّ والإسلاميّ إلى الخروج من الظلاميّة والظلم السائدين، ولا سيّما في مجال قيَم الحرّيّة والعدالة/المساواة والحقيقة، في إطار حقوق الإنسان العربيّ والمسلم، بغية الوصول بشعوبنا ومجتمعاتنا إلى حداثة أخرى، عربيّة الطابع، إسلاميّة المنحى، بالمعنى الذي وَرَدَ فيه الإسلام في كتاب الله: «الدين عند الله الإسلام» (آل عمران 19)، إلى حداثة لا يسعني سوى تبيّن ملامحها الكبرى. ولعلّ ذلك مصدر غناها وسرّ قوّتها. ذلك لأنّ الحداثة التي أتطلّع إليها وأنشدها ليست جاهزة البتّة ولا مستوردة، إنّما يتوقّف على الشعوب العربيّة والإسلاميّة الاشتغال على واقعها الثقافيّ والحضاريّ بغية جعلها حقيقة راهنة، بهيّة وساطعة.
* كاتب لبناني