روجيه نبعة *
«نحن ندخل في مرحلة غير معقولة من الفوضى. (...) سوف نبني الآن جدراناً أكثر ارتفاعاً، إلكترونية حتى. وهكذا لن نرى ما سيحصل في (الجانب الآخر)». ليونارد كوهين. من جهة، هناك شبحان يطاردان العولمة، الإرهاب على طريقة «بن لادن» وتيارات الهجرة، وتبدو الحدود بينهما ضبابية مبهمة. في كلتا الحالتين، ترى العولمة خسارتها مؤكدة، تتفرغ للدفاع عن نفسها، عن فلسفتها الاجتماعية، السياسية، البشرية... فنظرتها للعالم تبدلت منذ 11 أيلول. بعد أن حددت أعداءها، المهاجرين والإرهابيين، تحرك نظامها بأكمله في أفضل السبل لتتخلص من هذا الشر المطلق. الخطاب السياسي الذي تشكّل في بدايتها أيام النضالات في القرنين التاسع عشر والعشرين دعا الى التغيير ونجح: فالقوانين «الوطنية» ألغت حقوق الإنسان، والحقوق النقابية ضُحّي بها على مذبح «حرية» الليبراليين الجدد، وحقوق الشعوب بالمقاومة لتحقيق استقلالها صارت من أوجه «الإرهاب»، إلخ...
من جهة أخرى، إنّ العولمة ترى مستقبلاً فيه زوال الحدود في العالم، أي عالم بلا حدود. وخطابها يطرح انفتاحاً شاملاً للعالم الخالي من الحدود من دون استثناءات: الانفتاح، أو بعبارة أخرى إزالة الجدران والحدود، هو الشعار الأكثر تعبيراً، وبغيابه تغيب العولمة، فعالم مليء بالحدود والجدران ليس «العالم» المنشود. من هنا، نستنتج التعارض الكامن في قلب العولمة: فكيف يكون «الانفتاح» في الوقت الذي يجب فيه «الانعزال»؟ وكيف السبيل الى مصالحة هاتين الضرورتين المتعارضتين، من جهة ضرورة إزالة الحدود، على طريقة الإنترنت، لفتحها بشكل لامتناهٍ على حرية تبادل السلع، المنتجات، الأفكار، الأشخاص، رؤوس الأموال... واللغة الإنكليزية، ومن جهة أخرى ضرورة «الانعزال» دفاعاً في وجه «الأعداء» الجدد، في وقت يُعمل فيه على إقصائهم؟
هنا يجتمع «المهاجرون» و«الإرهابيون» أمام «جدران» العولمة، وليست أية جدران. مع أنّ تاريخ الإنسانية عرف عدداً من الجدران والأسوار والحيطان المعروفة، لكن حديثنا سيتطرق فقط الى الجدران المعادية للعولمة والتي تشكل مثالاً للانعزال والانغلاق، فيما العولمة تنشأ من خطاب العالم، تصنع العالم، وهي العالم في حد سواء: فالجدران التي شيّدت أخيراً جسور الضفة الغربية، أو سبته ومليلة بين إسبانيا والمغرب، أو بين الولايات المتّحدة والمكسيك، أو المخطط البدء بتشييدها كحواجز سوريا / العراق، والسعودية / العراق، والسعودية / الأردن، وباكستان / الهند. فبعض هذه الحواجز والجدران (إسبانيا / المغرب، الولايات المتّحدة / المكسيك) تضطلع بمهمة أساسية هي إضعاف تيارات الهجرة من أفريقيا الشمالية الى أوروبا ومن المكسيك والبلدان اللاتينية الى الولايات المتّحدة الأميركية، وأما مهمة البعض الآخر فهي إضعاف تيارات الإرهاب (العراق: سوريا / العراق، السعودية / العراق، السعودية / الأردن)، كما الجدران التي لها مهمة مزدوجة (باكستان / الهند، والضفة الغربية) هي الهجرة والإرهاب الممتزجتين سوية. جميعها على الرغم من الاختلاف القائم بينها تسعى لحماية دول عالم الشمال وحلفائها من اجتياح المهاجرين الجنوبيين وإرهابييهم: فجميعهم يُدفعون الى الخارج ما قد يعرقل أساس العولمة ومبدأها فلا يعود أمامها خيار غير التلاشي تحت ضربات برابرة الجنوب وخطاهم المنتصرة أو أن تواجه العولمة من وراء الجدران صعوبة في قيامها فعلياً، مادياً ومجازياً. أمام هذا التعارض الذي تطرحه العولمة، يمكننا الاكتفاء بملاحظة الوقائع، وترديد صرخة هيكل أمام الجبال: «وهو كذلك»، يمكننا اعتبار هذه الجدران مجرد حادث عرضي ولا تخدم محتوى العولمة، بيد أنّ تشييد هذه الأسوار يتحوّل أكثر فأكثر الى سياسة عامة وعالمية، أي سياسة فائقة التعارض والتناقض، من جانب المروّجين أنفسهم للعولمة. كما أنّه، من الجهة المقابلة، يمكننا العودة الى ذلك التعارض لمحاولة فهم ما تخبّئه: ما الذي يجب رؤيته وتحجبه عن رؤيتنا؟ ما الذي تمنع تفسيره في الوقت الذي يجب ذلك؟
في الخفاء، العولمة لا تشكل دعوة انفتاح بقدر ما هي دعوة للانعزال وإلغاء الآخرين. والأسوأ أنّ هذا العالم بتركيبته معادٍ للتعددية ويسعى إلى التخلّص من «الآخرين» الذين لا يقدر على احتوائهم أو الذين لا يقدرون على الانخراط فيه؟ وبخلاف ما تقوله عن نفسها، العولمة لا تؤمن بنظام انفتاحي على الآخر والتعرّف بالآخر واحترامه («حوار الحضارات»، «المقايضات المتوازنة»، «الشراكة»...) بل تؤمن بنظام النفس والذات الذي يعمل على تقليص الآخر وجعله تابعاً تمهيداً لإلغائه.
كلا! فجدران العولمة ليست بحادث عابر بل هي هيكلية فصل بين عالمين: هذه الجدران تشكل الفاصل وتحدد الحواجز بين العولمة وعوامل تراجعها، هذه الحواجز ليست مقتصرة على مادة ملموسة، بل هي مؤسسة لجدار «عدم تفاهم» بين الداخل والخارج، وتشكل رموزاً للحقيقة المرّة للعولمة.
* مفكر وكاتب
ترجمة علي الحاج حسن