بولس خلف
في وقت الشدائد يظهر الرجال الأقوياء وخلال الأزمات الكبرى يتم الفرز بين الصحافة الحرة والإعلام الموجّه، ومرة جديدة، يرسب الإعلام الغربي في الامتحان المفصلي في ساحات بيروت الكبرى حيث تحتشد جماهير المعارضة من دون كلل منذ اثني عشر يوماً.
ليست المرة الأولى التي يبيّن الإعلام الغربي عن افتقاره الى الحس النقدي وعدم التزامه الحد الأدنى من القيم المهنية وعن غياب أي هامش معقول من الاستقلالية تجاه دوائر القرار السياسي في دوله المختلفة. الكل يتذكر المرحلة التي سبقت غزو العراق وكيف أن معظم الاعلام الاميركي المكتوب والمرئي والمسموع تبنّى كالكتاب المنزل الحجج التي قدمها الرئيس جورج بوش لاجتياح العراق واحتلاله فأخذت الصحافة الاميركية تتحدث عن أسلحة الدمار الشامل والعلاقة المفترضة للنظام العراقي السابق مع تنظيم القاعدة وعن تهريب مادة اليورانيوم من النيجر، وما الى هنالك من قصص وقضايا ألصقت بصدام حسين. بتبنّيه الرواية الرسمية من دون تدقيق، ساهم هذا الاعلام بالمآسي التي يعيشها اليوم الشعب العراقي. صحيح ان بعض الصحافيين قام بنقد ذاتي. لكن هذه الخطوة جاءت متأخرة ومن دون مفعول رجعي. صحيح أيضاً ان الإعلام الاميركي ساهم في خسارة الجمهوريين للانتخابات الأخيرة في الكونغرس. لكنه لم يتحرك على أساس ان الأسباب التي شنت بموجبها الحرب والتي ساهم في تسويقها كانت باطلة، بل انطلاقاً من الخسائر الفادحة التي يتكبدها الجيش الاميركي من دون تحقيق أي هدف يمكن الاعتزاز به.
يكرر اليوم الإعلام الغربي في لبنان ما سبق ان اقترفه في موضوع العراق، فها هو من جديد يتبنّى المواقف السياسية لحكوماته ويستخدم المصطلحات نفسها التي تظهر في التصريحات والبيانات الرسمية. الصحف ومحطات التلفزة والإذاعة تتحدث عن «معارضة موالية لسوريا»، متناسية ان إحدى الركيزتين الأساسيتين لهذه المعارضة هو التيار الوطني الحر الذي له المساهمة الكبرى في النضال على مرّ خمس عشرة سنة من أجل إنهاء الوصاية السورية على لبنان.
ويتحدث هذا الإعلام أيضاً عن «المعارضة الشيعية»، حاجباً عن قرائه ومشاهديه ومستمعيه حقيقة لا تحتمل الجدل حول المشاركة الفاعلة للشارع المسيحي في هذا التحرك الشعبي. ويصور معظم هذا الإعلام ما يجري في بيروت على انه «محاولة انقلابية مدعومة من دمشق وطهران»، من دون التوقف عند البعد الداخلي للأزمة السياسية والدستورية التي تعصف بالبلاد.
ليس الكسل الفكري والتقصير المهني هما المسؤولين عن هذا الأداء المثير للشفقة. إنه التناغم بين الحكومات والإعلام والتصاق الصحافة بالتوجهات السياسية للدولة ولا سيما في المجال الخارجي.
هذا الواقع يطرح على هذا الإعلام معضلة حقيقية. هل هو فعلاً إعلام حرّ ومستقل، أم هو مجرد أداة تضاف الى الأدوات الأخرى التي تستخدمها الحكومات الغربية في سياستها الخارجية؟
إن الدروس عن الموضوعية والمهنية في تلقّف الخبر ومعالجته وتسويقه التي يتحفنا بها الصحافيون الغربيون لم تعد تنطلي على أحد. فقد أثبتت الوقائع أن الصحافي الذي يعمل في ظل سلطة استبدادية يكون منسجماً مع نفسه أكثر من الذي يعمل في دولة غربية ديموقراطية. فالأول يعرف ان قلمه ليس حراً وهو يتوق الى هذه الحرية التي يفتقدها. أما الثاني فهو لا يسعى الى الحرية لأنه يظن انه يعيش في كنفها، بينما في الحقيقة هو صحافي موجّه ومنخرط تماماً في إطار مرسوم له ولا يستطيع الخروج عنه. ليس كل الإعلام الغربي متهماً بالانحياز والارتباط بالتوجهات السياسية لحكومات دوله. فهناك أفراد ومؤسسات تشكل في هذا المشهد المظلم مساحات مضيئة. لكنها استثناءات... تؤكد القاعدة.