يحيى فكري *
كان مدهشاً بحق ذلك التحذير الذي وجهه مبارك إلى جماهير المعارضة اللبنانية المحتشدة في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، بأن عليهم التراجع عن اعتصامهم وإلا سينفجر الوضع في لبنان بما يؤدي إلى «تدخل» دول عربية لحماية السنيورة وحكومته! مصدر الدهشة هو تلك الثقة التي تحدث بها مبارك، وكأنه يمتلك حقاً رؤية ثاقبة تجعله متبصراً بالمستقبل، أو كأنه يمسك بأدوات الفعل التي تمكنه من التدخل وتعديل مسار الأمور. والحقيقة أن مبارك لا يملك الرؤية ولا أدوات الفعل، وكل المطلعين على أحوال السياسة في مصر يعرفون ذلك جيداً. صحيح أن نظامه نجح في القبض على أنفاس المصريين طوال الخمس وعشرين سنة الماضية وحتى يومنا الحاضر، لكنه لم يعتمد في ذلك على البصيرة ولا على قوة الفعل وإنجاز المهمات الاقتصادية أو السياسية، وإنما القمع السافر وحده كان سنده الرئيسي في تثبيت قبضته. هذا هو واقع الأمور في مصر طوال عهد مبارك، وبصورة لا لبس فيها خلال السنوات الأخيرة على الأقل.
«الاستقرار» هو الشعار الذي رفعه منذ أن تولى السلطة، وظل عنواناً أثيراً لديه طوال سنوات حكمه في ما بعد، وغالباً لأنه أتى بعد سنوات من الاضطراب والتقلب شكلت عصر السادات. إلا أن حكم مبارك لم يخل من الاضطرابات، لكنه نجح دائماً ــ ربما هو نجاحه الوحيد ــ في تخطي العثرات من دون خسائر مهمة تمس قبضته على السلطة. المهم أن ذلك جاء تحديداً على حساب قدرته على الفعل، حتى صار العجز والفشل سمتين رئيسيتين لعهده. لقد تبنى سياسة اقتصادية تقوم على الخصخصة وتصفية اقتصاد الدولة الناصرية، بما يعنيه ذلك من عصف بمكتسبات ومصالح الفقراء ــ الغالبية العظمى من المصريين ــ لمصلحة المستثمرين المرتبطين بنظامه وشركائهم من الرأسماليين العالميين. أدى ذلك إلى اتساع هائل للفقر والبطالة وانهيار الخدمات وتشريد العمال، وعلى رغم التكلفة الاجتماعية الباهظة التي أقدم عليها إلا أنه فشل في جلب الاستثمارات بسبب الفساد المستشري في أركان حكمه. فلا هو حافظ على اقتصاد الدولة بما يكفله من ضمانات اجتماعية، ولا هو نجح في تشجيع الاستثمارات وتحقيق الرواج لاقتصاد السوق.
ومع نهاية التسعينيات ومطلع القرن الجديد وجد نظام مبارك نفسه في مأزق حاد، فقد حدث انهيار شديد في المؤشرات الاقتصادية وسعر العملة، صاحبه تفاقم في الأزمات الاجتماعية. ومن جانب آخر جاء صعود بوش والمحافظين الجدد وبالاً عليه، فقد شنوا حملة عنيفة عليه بتحميله مسؤولية انتشار الإسلام الجهادي في المنطقة بسبب ديكتاتوريته وفساده. وعلى جانب ثالث انطلقت حركة تضامن شعبية عارمة في مصر مع الانتفاضة الفلسطينية، أحيت الحياة السياسية بعد موات طويل، وصبت جام غضبها على النظام وسياسات التبعية. فجأة أصبح النظام المصري واقعاً ما بين مطرقة الإمبريالية وسندان الجماهير في حالة عجز وشلل تام، وصار فاقداً لكل مساحات المناورة مع الغرب، ومطالباً بتواطؤ واضح لتصفية الانتفاضة ودعم صريح لاحتلال العراق. في الوقت نفسه الذي ولدت فيه حركة سياسية تطالب بالتغيير، خرجت أخرى من قلب موجة التضامن الشعبي مع الانتفاضة ومناهضة الحرب. ولم يعد من سبيل أمامه للخروج من المأزق سوى الرضوخ الكامل للمطالب الأميركية من جانب، وتشديد القمع لحصار حركة التغيير وإرهاب الجماهير المصرية من جانب آخر.
القمع في مصر ليس مجرد واحدة من أدوات السلطة إنما هو مصدر وجود النظام واستمراره، مظاهره أكثر من أن تحصى، فعصر مبارك شهد أعلى معدلات الاستبداد في تاريخ مصر الحديث كله، كما ورد في أحد تقارير حقوق الإنسان العالمية في مطلع الألفية. هناك أكثر من عشرين ألف معتقل ــ حسب أقل التقديرات ــ يعيشون في سجون تحت الأرض لمدد تزيد على عشر سنوات. أما التعذيب فهو نظام العمل الثابت داخل أقسام الشرطة ومقار أمن الدولة، والسلوك اليومي المرتبط بالتحقيق الجنائي في كل الجرائم، موجه بالأساس للمواطنين الفقراء أكثر مما هو موجه للمعارضين السياسيين. وعلى رغم أن النخب السياسية نجحت تحت ضغط حركة التغيير في انتزاع مساحة للتعبير، لكنها تعيش تحت الحصار، وكأنها تصرخ في فضاء عاجزة عن مد الجسور مع جمهورها المستهدف. بينما تقوم السياسة الأمنية على إشاعة الخوف وسط الجماهير الفقيرة لفرض قبول الأمر الواقع عليها وعزلها عن الحركة، بالتأديب والتعذيب المنهجي والعقاب الجماعي المتواصل.
وبقدر ما اتسعت هوة الفقر أصبح الفساد عنواناً للحياة في مصر. وحسب تقارير الأمم المتحدة تقع مصر ضمن أسوأ دول العالم في مستويات المعيشة والأجور والتعليم والعلاج والضمانات الاجتماعية، فتتذيل مثلاً في أغلب الأحوال البلدان العربية، ولا يعقبها غالباً إلا حالات خاصة كالصومال والعراق، بينما تتراكم ثروات هائلة في أيدي نخبة من المستثمرين المتحلقة حول مبارك وأسرته وأقطاب نظامه. وكلما ازداد الفقر ازداد القمع، وازداد الرضوخ لأميركا، فرضا البيت الأبيض عن مبارك اليوم شرط لا غنى عنه لاستمراره في الحكم. لذا تحول النظام المصري إلى عراب مشروع الشرق الأوسط الأميركي، يتواطأ علناً على المقاومة في لبنان وفلسطين ويدينها لمصلحة إسرائيل في سابقة هي الأولى من نوعها، بعد أن كان يفعل ذلك في الخفاء. ويا ليته اكتفى بالإدانة، بل فعل الأسوأ وبات يبني حلفاً مع أشباهه من «المعتدلين» العرب تحت رعاية السيدة رايس لحماية المصالح الأميركية، وصار يشعل نيران الفتن بالحديث عن الســــــنة والشـــــــــيعة تنفــيذاً للمخطط الأميركي.
القمع والفساد والتبعية ثلاث كلمات تلخّص حكم مبارك، الذي أصبح اليوم فاقداً لكل مشروعية تمنحه الحق في البقاء. ولم يعد في مصر الآن أحد يقبله أو يرضى عن استمراره في السلطة، اللهم إلا طغمة من المنتفعين والمنافقين والأتباع، ممن اعتادوا التهليل وحرق البخور لكل حاكم مستبد وسلطة فاسدة. هذا تحديداً هو مصدر تهديد مبارك وتحذيراته للمعارضة اللبنانية، هو تهديد موجه لمصر وليس للبنان. التقارير التي بين يديه تخبره عن حجم السرور والحماسة اللذين يغمران المصريين من مشهد الحشود في بيروت، وهو يخشى من انتقال العدوى إلى القاهرة. انتصار الجماهير في لبنان لن يؤدي فقط إلى هزيمة المشروع الأميركي وعملائه في المنطقة، وإنما سيمنح الجماهير العربية، التي تئن تحت وطأة الفقر والاضطهاد، قدراً هائلاً من الثقة في قدرتها على التحدي والنصر.. وربما ساعتها ينفجر الغضب في مصر.
* كاتب مصري