علي الشامي *
أضاف الرئيس الأميركي جورج بوش الابن إلى معجم مصطلحاته حول الإسلام مصطلح «الفاشي»، بعد مصطلحات «الإرهاب» و«التطرف» و«الاستبداد» إلخ... وقد خرج هذا المصطلح منذ شهرين تقريباً ووقع على مسامع الرأي العام في صيغة اكتشاف جديد غفلت عن تداوله وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة ذات الصلة بتوجيه الأنظار والسياسات، وبالتالي سرعان ما جرى تداول هذا المصطلح على ألسنة إعلاميين وسياسيين داخل الولايات المتحدة وخارجها، وكأننا أمام توصيف مهم ينبغي البناء عليه بعد أن استُنزفت مفاعيل النعوت الأخرى.
وهكذا، انتشرت عبارة «الفاشية الاسلامية» في الخطاب الأميركي الرسمي والاعلامي ولدى من يغرف منه المصطلحات التي تناسبه في سياق هواجسه وأهدافه المحلية أو الإقليمية، وقد غاب عن أذهان هؤلاء جميعاً ان مصطلح الاسلام الفاشي قديم نسبياً، وعملت وسائل الاعلام الغربية على استخدامه منذ اللحظة الأولى التي بات فيها الاسلام موصوفاً بالإرهاب والتطرف، وهي اللحظة التي أنتجت المصطلحات المطلوبة في مرحلة ما بعد الانهيار السوفياتي وقيام النظام العالمي الجديد بعد حرب تحرير الكويت مباشرة. وبهذا المعنى، لا يشكل اكتشاف جورج بوش الابن للإسلام الفاشي إضافة نوعية الى قائمة النعوت التي انهالت على الاسلام، وتحديداً، منذ ولاية الرئيس جورج بوش الأب.
وقد بات بديهياً القول ان المصطلحات السلبية المرافقة للاسلام، منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، هي مصطلحات تحمل أبعاداً سياسية، إعلامية واستراتيجية، أكثر مما هي توصيف موضوعي لواقع الصراع بين الإسلام والغرب الذي أصبح في ظل القيادة الأميركية.
وفي هذا السياق تحديداً، تندرج توصيفات الخطاب الغربي للاسلام وهو السياق الذي تموضعت فيه الصراعات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة وحطت رحالها في بؤرة تراكم الثروات والمواد الأولية والأسواق والكثافة البشرية. وبما ان العالم الاسلامي يمثل مركز هذه البؤرة، فإن الصراع الدولي سوف يدور في هذا العالم وحوله بما هو مفتاح السيطرة على الاقتصاد العالمي ومربض خيل القطب الاميركي الساعي الى التفرد بتقرير مسار هذا الصراع ووجهته وأهدافه النهائية.
وهنا بالتحديد، تكمن الأسباب والغايات التي دفعت الخطاب الغربي عامة، والأميركي خاصة، الى توصيف الاسلام بما هو التهديد العلني والمباشر للنظام العالمي الجديد. ومن دون مقومات مقنعة، أي قبل أحداث 11 أيلول 2001 بعقد كامل من الزمن، وقبل أي هجوم إرهابي إسلامي على المصالح الغربية، احتل الاسلام مكانة الشيوعية والنازية والفاشية في عقيدة الجيوش الغربية واستراتيجيات التعبئة للحروب. وبسرعة قياسية ومفاجئة، صنعت وسائل الاعلام منه «شيطاناً هارباً من سجنه»، وفق عبارة مارتن لوثر في موعظة الحرب، متغلغلاً في شوارع المدن الغربية وفي يده قنبلة نووية؟؟؟ فكانت ظاهرة الرهاب من الاسلام قد تكرست في الرأي العام الغربي قبل عقد من تكريسها في تفجيرات نيويورك ومدريد ولندن وصولاً الى بغداد. وهكذا، أصبح الاسلام موصوفاً بالفاشية والنازية الوارث لهما رغم أنفه، وما التعصب والارهاب والتطرف إلا تنويعات على سلوكيات فاشية جرى إسقاطها على الإسلام من دون تدقيق ووسط صخب إعلامي غير مسبوق. وفي الحقيقة، توصيف الخطاب الغربي للإسلام بمصطلحات كهذه، لا يشكل تحولاً جذرياً أو رؤية جديدة للاسلام، بقدر ما يسقط عليه توصيفاً ملائماً لعقلية العصر ولنوعية الصراعات الطارئة والجديدة.
وإذا وضعنا جانباً الرؤية الموضوعية للاسلام، وهي دائماً حاضرة في الخطاب الغربي، ومنذ مئات السنين، والتي كانت دائماً أيضاً خافتة ومقموعة وقليلة التأثير في الرأي العام بسبب تناقضها ومصالح الغرب العليا، فإن النظر الى الاسلام كخطر دائم وجاثم في وجه الغرب لم يتبدل منذ معركة بواتييه حتى اليوم. قد تتغير حال الاسلام وأحوال المسلمين، من الهجوم الى الدفاع، من الحضارة الى الانحطاط، من الازدهار الى التخلف، لكن صورته في الخطاب الغربي الرسمي لم تتغيّر. عندما كان قوياً، رآه الغرب قبائل تنشر القرآن بالسيف، وعندما بلغت حضارته ذروتها اكتشف فيه الغرب الغرائز والملذات والحريم وتعدّد الزوجات والاستبداد، وعندما شهر ممانعة للاستعمار، تحوّل الى «أفواج من البرابرة الممقوتين»، وعند انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار الليبرالية الجديدة على الشيوعية وبدأ الصراع الدولي يدور حول العالم الاسلامي، تحول الاسلام الى إرهاب وتطرف وفاشية...؟
وبعد مئة مليون قتيل، من 1900 الى 1950، وحرب باردة كانت حروباً ساخنة في نقاط التنافس بين أقطاب العالم، يستعيد القطب الأميركي الأوحد خطاب الخوف من الاسلام، ويعمم صياغته الجديدة لرؤية الاسلام في صورة التهديد الكامل والخطر الكامن، تلتئم عناصرها حول مجاورة الاسلام لمصادر الثروة وإمكانياته المكبوتة في تغذية الممانعة ووحدة الهوية والمصير. ولا يخفف من أثقال هذه الرؤية الحديث العابر عن اسلام معتدل ومتسامح وسلمي الخ... ذلك ان هذه الرؤية وبعد وضعها في سياق الثروة والقوة، سرعان ما تصبح دلالة على رعب شامل، وتأسيساً لإيديولوجيا تشكل الاسلام في هيئة تتناسب وتستجيب لضرورات الصراع الدائر حالياً بين القطب الواحد من جهة، والأقطاب المتضررة من هيمنته، من جهة أخرى، وبينها بطبيعة الحال، العالم الاسلامي وقد أصبح بؤرة الصراع ومركز التنافس ولن يكون أصحابه بمنأى عما يدور عندهم وحولهم.
انطلاقاً من هذا الواقع، لا يعبّر، بالضرورة، نعت الاسلام بالفاشية عن وقائع ملموسة، حتى لو مارست فئة من المسلمين ضروباً من العمليات الارهابية والمسلكيات الارغامية، ما دامت الأكثرية الساحقة من المسلمين قد اختارت وسائل أخرى لمقاومة الهيمنة الغربية الجديدة، وهي وسائل يخاف الخطاب الغربي من التركيز عليها لأنها تتلاءم ومفردات خطابه الممجوج عن الديموقراطية والسيادة وحقوق الانسان.
بيد ان ما يبرر هيمنة مصطلحات الفاشية والارهاب يكمن في الخوف الحقيقي من الممانعة العامة غير الموصوفة بالفاشية والارهاب. وبالتالي، فإن تضخيم الخوف من الاسلام يكشف قلقاً عارماً ليس من خصم لم يعلن خصومته بقدر ما يخاف من أسلحة لم يشهدها بعد: الكثافة البشرية، الموقع الاستراتيجي، السوق الاستهلاكية الكبيرة، النفط، الودائع المصرفية، الهوية المعتقدية والثقافية... وهي أسلحة اذا اجتمعت في نصاب واحد واتفقت في غاية وانضوت إلى قيادة جامعة، سوف تولد تهديداً لا يستهان به.
وفي هذا السياق تدرج جميع النعوت السلبية التي أغدقها، ولا يزال، الخطاب الاميركي، الاعلامي والرسمي، على الاسلام والمسلمين، وكان آخرها الاسلام الفاشي. واذا كان الرئيس الاميركي مستنداً الى أفعال ملموسة في اكتشافه فاشية الاسلام، فما هي الاسباب التي جعلت منه اسلاماً فاشياً منذ أكثر من عقد من السنين؟ ففيما المجتمعات الاسلامية لا تعمل على تنظيم نفسها على إيقاع حرب شاملة على أميركا والغرب، وفيما تبحث عن وسائل تحميها وتخفف عنها أعباء السياسة الغربية المعادية لها، يشكل ما صرّح به جون كالفن، القائد الأعلى السابق لقوات حلف الأطلسي، في كلمته الوداعية في بروكسل، عام 1992، علامة فارقة إذ قال: «اننا قد ربحنا الحرب الباردة، وها نحن نعود اليوم بعد 70 سنة من الصراعات الضالة الى محور الصراع القائم منذ 1300 سنة: إنها المجابهة الكبيرة مع الإسلام»؟
* باحث وأستاذ جامعي