سركيس أبو زيد *
لبنان في مسيرة متواصلة نحو الفتنة كأنه في استراحة بين هدنتين. القوى السياسية والطائفية فيه تتبادل الأدوار ومواقع النفوذ. اليوم، قوى 8 آذار تقوم بتقليد ما كانت قوى 14 آذار تفعله في ساحة الشهداء من نصب للخيم والسهرات الليلية وغيرها. الخطاب واحد كذلك، تتخلله التهم والحجج والنبرة نفسها، غير أن أسماء الخطباء ووجوههم قد تغيرت.
انقلاب الصورة
في الأول من كانون الأول انقلبت الصورة في ساحة الشهداء وتبدل المشهد: القصر الحكومي شبه محاصر، رئيس الحكومة والوزراء غدوا معزولين، بحر من الناس يطوّق السرايا المحصنة بالأسلاك الشائكة وآليات الجيش، تصريف الأعمال يتم عبر الهاتف والفاكس والبريد الالكتروني، والقوى الأمنية التي تحرس الحدود باتت محتشدة في بيروت لحراسة مقر رئاسة الوزراء الذي أضحى فندقاً ومطعماً لوزراء يخشون مغادرته.
منذ 14 شباط 2005 والفريق الحاكم حالياً يحتل المسرح والمنصة ويحتكر الشارع والساحات ويتفرد بالمشهد والصورة ويسيطر على الشاشات ويحلم بتطويق قصر بعبدا وإسقاط رئيس الجمهورية. لكن في الأول من كانون الأول 2006، انقلبت الصور والشاشات بعودة الروح الى القوى الوطنية المعارضة لحكومة أقل ما يقال فيها أنها تواجه أزمة عميقة وقد باتت عاجزة عن ادارة البلاد والوفاء بالتزامات نالت ثقة المجلس النيابي على أساسها.
الأول من كانون الأول كان أقرب الى العاميات التي عرفها تاريخ لبنان في القرن التاسع عشر يوم التقى اللبنانيون بمختلف طوائفهم ومناطقهم في ثورة وجّهت رماحها إلى الاستبداد والاحتلال. الأول من كانون الأول هو بمثابة استفتاء أنهض المعارضة اللبنانية لإعادة التوازن السياسي الى الحكم ولفرض المشاركة صيانةً للوحدة الوطنية والسلم الأهلي.
المعارضات
حركة الأول من كانون الأول الى أين؟
لن تتنازل قوى السلطة بسهولة وبسرعة عن الحكم، فهي لا تزال مدعومة وبقوة من الحكومات الغربية والعربية ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والسعودية التي سارعت الى استنفار قواها في لبنان من أجل توفير الدعم والمساندة لحكومة السنيورة قبل أن تتهاوى وتنهار. كي تتحول هذه الحالات الاعتراضية الى انتفاضة قادرة على تحقيق أهدافها، عليها تجاوز التحديات التالية:
1 ــ توحيد إدارتها وتأليف قيادة مشتركة لقوى المعارضة المؤلفة من تيارات وأحزاب تلتقي للمرة الأولى في تحرك شعبي بهذا المستوى.
2 ــ توحيد برامجها ومطالبها حتى تغدو الأهداف مشتركة منعاً لتضارب الجهود وتفادياً للخروق والخلافات الجانبية.
3 ــ ابتداع طرق وأساليب جديدة لإنجاح الاعتصام والتحركات المواكبة له ولا سيما أن المسيرة تتطلب نفساً طويلاً وتعبئةً جماهيريةً مستمرة.
4 ــ إجراء نقد ذاتي لتجربتها السابقة وخاصة الأحزاب العلمانية والقومية المطالبة أكثر من غيرها بتقديم رؤية ديموقراطية للقومية ومؤالفة المقاومة مع المجتمع المدني.
حركة وطنية جديدة
إن الظروف الموضوعية مؤاتية لبعث الروح في حركة وطنية جديدة، لكن هل تعتبر الظروف الذاتية للقوى التي تتألف منها مهيأة لوعي هذا الدور وقيادته؟ وهل تستطيع هذه القوى أن تفتح حواراً جدياً مع سوريا المدعوة بدورها الى إجراء نقد ذاتي لتجربتها السابقة في لبنان التي شابها الكثير من الشوائب والحسابات الخاطئة والرهانات المميتة؟
هل تستطيع هذه القوى أن تؤكد استقلاليتها وتحررها من منطق التبعية والاتكال على القوى الإقليمية؟ مع العلم أن السيد حسن نصر الله ذكر في كلمته الأخيرة التي خاطب فيها الحشود في ساحتي الاعتصام، ولأول مرة، رفضه لأي وصاية حتى وصاية الصديق والشقيق لكن من دون أن يوضح كيف.
السؤال الملح هنا فهو: كيف تحافظ هذه الحركة الاعتراضية على طابعها الوطني من دون الانزلاق الى الفعل وردات الفعل المذهبية والطائفية في ظل وجود الكثير من أفخاخ الفتنة التي تنصب لكل حركة وطنية بهدف إجهاضها في مستنقع النظام الطائفي الذي يأسر الزعامات ويكبّل العاميات الشعبية.
أما السؤال الأخير المطروح هنا فهو: هل تتمكن هذه الحركة من توحيد موقفها حين تدق ساعة استحقاق التسوية أو إعادة تأليف السلطة؟
لقد نجحت حركة الأول من كانون الأول في قلب الصورة وتوحيد الساحتين شعبياً، لكن ما العمل كي تنجح في تحقيق أهدافها؟ وكيف ستواجه احتمالات حصول أحداث ما تهدف إلى عرقلة هذه المسيرة ولا سيما أن ظروف استمرارها ونتائج نضالها مرتبطة بظروف المنطقة المحيطة بها وتداعيات المأزق الأميركي الحالي؟
لبنان اليوم على حدود تماس بين مشروعين، فإما أن يكون جزءاً من الفوضى التي تنشرها أميركا في العراق وفلسطين، وإما أن يكون جزءاً من جبهة المقاومة والممانعة للهيمنة الأميركية الاسرائيلية على المنطقة. وبين حرب أهلية غير مسموح بها حتى الآن وسلم أهلي مهدد باللااستقرار، المعارضة اللبنانية مدعوة الى بلورة مشروعها كحركة وطنية جديدة تشق طريقها بأمان وبخطى ثابتة، كي لا يبقى لبنان وشعبه أسرى جنازة مستمرة.
*كاتب لبناني