أرنست خوري*
مرّ «القطوع الأمني» على خير في فنزويلا! أقفلت صناديق الاقتراع الإلكترونية، أعلنت النتائج الرسمية النهائية. حصد هوغو تشافيز فريّاس 63% من أصوات الناخبين مقابل منافسه مانويل روزاليس، أحد وجوه الانقلاب المافيوي الفاشل على الرئيس عام 2002. يبقى الأساس أنّ أيّاً من الأعمال التخريبية لم تقع. أي من عناصر المرتزقة الـ300 (خاصةً الكولومبيين) ومن يدعمهم من قوى محلية وأميركية لم تتمكّن من افتعال أحداث تطيح الانتخابات ونتائجها.
كتب الكثير عن الثورة البوليفارية منذ انتخابات أواخر عام 1998 وعن الدستور الجديد الذي افتتح به تشافيز حكمه الفعلي عام 2000. تركّز النقاش على هذا الذي جرؤ على نعت جورج بوش بـ«الشيطان الأكبر». وصل الأمر بالكثيرين الى وصفه بـ«العربي الأوّل» بسبب تضامنه مع الشعوب العربية بوجه آلة الحرب الاسرائيلية. اتّهم بالشيوعية (لاحظ كيف أنّ الشيوعية باتت تهمة) والشعبوية والديماغوجية... لكن الكثير يبقى ليقال عن برنامج حكم بعنوان «اشتراكية القرن الـ21» في دولة باتت أنموذجاً يحتذى عند كل طامح إلى تغيير قواعد لعبة النظامين الاقتصادي والسياسي الدوليين في عزّ عصر الهزائم. منذ فشله في محاولة الانقلاب العسكرية عام 1992، قرّر تشافيز سلوك الدرب الديموقراطي المدني ليعرض على شعبه برنامجاً تغييرياً. ما إن نال الرئيس الشاب ثقة شعبه، فهم أنه لا بد له من أن يوفّر أرضية دستورية قانونية يتمأسس مشروعه عليه. اقترح دستوراً جديداً خلال السنة الأولى من ولايته كما وعد شعبه، وانطلقت القافلة بإنجازات وعثرات. توقفت لـ48 ساعة (هي الفترة التي دام فيها الانقلاب الفاشل عام 2002)، ثمّ عاودت الانطلاق بزخم أكبر عام 2004 بعد تجديد الناخبين ثقتهم به حتى وصلت الى إعادة انتخابه رئيساً لولاية ثانية بأكثرية تعدّ «انتخابيّاً» مريحة.
كيف تبلورت الخطوط العريضة لهذه «الاشتراكية العصرية» في السنوات الست الأولى من حكم تشافيز؟ ماذا عن «ديموقراطية المشاركة» التي أعادت «للديموقراطية الحقيقية» اعتبارها؟
استفاد الكولونيل تشافيز من الأخطاء والخطايا التي اعترت التجارب الاشتراكية. خلص الى أنّه لا بدّ من مصالحة الاشتراكية مع الديموقراطية، بوجوهها الاجتماعية والسياسية. درس تجربة التشيلي مع زعيمها التاريخي سلفادور الليندي، وفهم أنّ من شأن مصير حكمه أن يكون مشابهاً لما حصل يوم 11 أيلول 1973 في سنتياغو، إن لم تتأسّس الثورة البوليفارية على ركائز دستورية وشعبية، تضعها بمنأىً عن أية مخاطر إذا استهدفت عصابات «اليانكي» رأسها. إنّ الشعار الأبرز لاشتراكية تشافيز هو تطبيق «ديموقراطية المشاركة» التي فصّلت في بنود واضحة من الدستور الجديد. هي ديموقراطية تخصّص بها المفكّر الماركسي اليوناني نيكوس بولانتزاس، لكنّ تشافيز وفريق عمله أعطوها ترجمةً محلية الصنع، تتلاءم مع الواقعين الاجتماعي والسياسي المعقّدين للغاية في فنزويلا. على الرغم من تزعّم تشافيز تحالفاً حزبياً يسارياً واسعاً (على رأسه حزبه MVR)، يبدو الرئيس غير واثق تماماً بتنظيم الشعب من خلال العمل الحزبي فقط، ولا من خلال دور الدولة البيروقراطي أيضاً. حدّد الخطوط العريضة لتنظيم المواطنين الذين أصبحوا يشاركون بفعالية في إدارة وبرمجة الشأن العام في البلاد من خلال وسائل عدّة، معظمها ينتمي الى معجم «الديموقراطية المباشرة أو نصف المباشرة»: ــ المجالس التمثيلية المحلية ذات الصلاحيات الواسعة، ــ فتح باب الاستفتاءات الشعبية أمام المواطنين ليقرّروا في كل جوانب السياسات المحلية والخارجية، ــ كسر ديكتاتورية الإعلام عبر تشجيع إيجاد وسائل الإعلام المحلية لإبقاء المواطنين على بيّنة من كل ما يحصل في شؤون البلاد، ــ تعزيز التعاونيات الثقافية، الاجتماعية، الصناعية والزراعية خارج إطار الوزارات المختصّة، ــ فتح باب المحاسبة لكل مسؤول في الشأن العام في جمعيات عمومية دورية لتقويم العمل في كل المجالات...
هكذا، ومنذ عام 2000، أصبحت لمواد الدستور الجديد ترجمة حقيقية كي تصبح «كل السلطة بيد الشعب المنظّم» ولكي يصبح «للمجتمع دور مشارك وطليعي» كما تنص بنوده، ودور مشارك لمؤسسات الدولة التي بات دورها ينحصر في إطار خلق الظروف الموضوعية المناسبة ليتسلّم المواطنون كل أشكال السلطة مباشرةً! من الواضح أنّ مشروع تشافيز هو ثوري ــ ماركسي ــ كولومبي (أي توحيدي لأجزاء القارة الأميركية) بامتياز. ولمّا كان شعبه الكاثوليكي الملتزم دينياً البالغ الحساسية تجاه مصطلحات «شيوعية» و«ماركسية».. لما تتضمّنه من مفاهيم إلحادية، فضّل الرئيس مخاطبة مواطنيه باللغة التي تتناسب مع إرثهم الفكري ــ النضالي: أدبيات لاهوت التحرير لا الماركسية اللينينية، مفاهيم بوليفار وسوكر وميراندا (القادة الثلاثة الذين حاولوا توحيد القارة) لا مصطلحات ماو وإنجلز... حتّى إنّ تشافيز نفسه لا يتردّد عن التبشير ببعض الأفكار الماركسية «الفاقعة» لكن من دون أن ينسبها لأصحابها الحقيقيين.
إنّ أكثر الإنجازات التي اشتهرت بها ولاية الرئيس الأولى، هي محاربته الفقر والأمية لكن بوسائل «ثورية» لا تشبه الوسائل الكلاسيكية.
استطاع تشافيز أن يبتدع أسلوب «البرامج» (تكلفتها حوالى 3.7 مليارات دولار سنوياً تقتطع من عائدات «شركة النفط الوطنية»)، لكسر حلقات أحزمة البؤس المنتشرة على مساحة البلاد، هرباً من فساد وبيروقراطية وبطء عمل مؤسسات الدولة من جهة، ورغبة منه في فك حلقات تبعية المواطن لـ«عمودية العلاقات دولة ــ مواطن»، وهي تأخذ أكثر من منحى:
ــ في التربية والتعليم ومحو الأمية: «برنامج روبنسون» (تيمّناًَ باسم أستاذ سيمون بوليفار): قبل عام 2000، كانت نسبة انتشار الأمية في فنزويلا، من الأعلى في العالم. وفي 25 تشرين الأول عام 2005، أعلنت منظمة الأونيسكو أن البلاد أصبحت خالية من الأمية! حصل ذلك من خلال المدارس الـ2500 المجّانية على مختلف المستويات الأكاديمية. وتقوم المرحلة الثانية على فتح حوالى 50 مدينة جامعية متخصصة مجانية في مختلف المحافظات.
ــ في قطاع الصحة: «برنامج باريو أدينترو» بالتعاون مع كوبا التي أرسلت حوالى 20000 طبيب الى أحياء وأزقة فنزويلا الأشد فقراً لاستحداث مستوصفات ومستشفيات مجانية... أمّا المستشفيات العسكرية ففتحت بدورها أمام المدنيين!
ــ«برنامج المعجزة» تمويل فنزويلي لإجراء عمليات لفاقدي النظر من كل أنحاء القارة الأميركية...
ــ في الغذاء: «برنامج مركال» لدعم أسعار المواد الغذائية للفقراء..
ــ برنامج بيوت الفقراء: توفر للمواطن المواد الأولية وكل المستلزمات بالاضافة الى قطعة الأرض (من خلال قانون الأرض الذي يعيد توزيع الأراضي المسلوبة ظلماً من الفقراء على المحتاجين الحقيقيين إليها).
ــ حقوق الشعب الأصلي: خصّص الدستور الجديد 4 مقاعد للسكان الأصليين المهمّشين سابقاً، واستحدث تشافيز «برنامج غوايكايبورو» للعناية بكل مشاكلهم..
أمّا في الاقتصاد، فهنا الإنجاز الأكبر الذي وضعه تشافيز في رصيد حكمه حتّى الآن. لقد سعى هذا الأخير لنقل الاقتصاد الفنزويلي من «ريعي» قائم على ثنائية «دولة غنية ــ شعب فقير» الى اقتصاد يحدّ من الفروق الطبقية ويستفيد من الثروة النفطية (التي أصبحت حسب الدستور الجديد ملكاً عاماً غير قابل للخصخصة إلا باستفتاء شعبي) «لزرع» النفط في القطاعات الانتاجية، بمعنى بناء صناعات وطنية قادرة على مواجهة احتمالات انخفاض أسعار النفط العالمية الى أقل من 30 دولاراً للبرميل، أو حتى نضوب النفط في يوم من الأيام. من هنا باشر سياسات تنموية متركّزة على الذات لفك الارتباط نهائياً بقوانين السوق ومؤسسات العولمة التي أجهزت على البلاد خلال عهد سلفه «كالديرا». لا يزال مشروع تشافيز بناء اقتصاد صناعي متطوّر يطمح إلى وحدة إقليمية مع بقية دول أميركا اللاتينية بغية تأليف محور سياسي واقتصادي لمواجهة الامبريالية الثلاثية (الولايات المتحدة، اليابان، وأوروبا الغربية).
قد يكون حامل إجازة العلوم السياسية قرأ جيداً ما كتبه سمير أمين، أو أنّه لم يقرأه البتّة، بل اقتنع من خلال تجربته وبعد نظره بما قاله المفكّر العالمثالثي في مؤلّفه «ما بعد الرأسمالية المتهالكة» وما معناه: أمام البشرية مصير من اثنين: إمّا الاستمرار في السير في طريق الرأسمالية وبالتالي الوصول القريب الى انتهاء الحياة البشرية على الأرض، أو الولوج في درب بناء الاشتراكية! لن تكون اشتراكية السوفيات ولا كمبوديا ولا حتّى كوبا… هي بكل بساطة «اشتراكية القرن الـ21».
*باحث لبناني