عصام نعمة إسماعيل *
نعم آن الأوان لأن يصدر رئيس الجمهورية مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة سنداً للفقرة 5 من المادة 53 للدستور. ويبرر إصدار هذا المرسوم جملة اعتبارات واقعية وقانونية:
أولاً: الاعتبارات الواقعية
1 ــ انسجام رئيس الجمهورية مع نفسه: عمد رئيس الجمهورية إلى توجيه أكثر من رسالة إلى رئاسة الحكومة وإلى الأمين العام للأمم المتحدة يقول فيها بأن اجتماعات حكومة السنيورة باطلة لمخالفتها ميثاق العيش المشترك. وهو يرفض التعاون مع حكومة فاقدة للشرعية. وما دام رئيس الجمهورية يرفض التعاون مع هذه الحكومة فلا يجوز لها أن تستمر بتأدية مهماتها تحت أي عذر، ذلك أن موقع رئاسة الجمهورية هو الموقع الثابت بنص الدستور، أما موقع الحكومة فهو المتغير وغير الثابت، وحرصاً على عدم شلل مصالح الدولة كان لا بد من البحث عن مخرج لهذه الأزمة، وهذا المخرج لا يكون إلا عبر إصدار مرسوم اعتبار هذه الحكومة مستقيلة.
2 ــ الهيمنة غير الشرعية على مجلس النواب: مما لا شك فيه أن الانتخابات جرت في أجواء مشحونة جداً استغله الفريق الحاكم فسيطر على إرادة الناخبين وحوّل أصواتهم بفعل هذا التشنج والعصبية إلى اتجاه لم تكن قناعاتهم الحقيقية في هذا الاتجاه، هذا عدا عن الرشوة الانتخابية. ثمَّ قطع الطريق على قيام المجلس الدستوري بمهماته تحت ذريعة تعديل القانون فعطّل مؤسسة دستورية ليضمن أن لا يخسر الأكثرية المغتصبة في مجلس النواب. فأفظع خروق الدستور الذي ارتكبته هذه الأكثرية الحاكمة هو تعطيل المجلس الدستوري، وهذا الخرق الذي لم يلاقِ الاحتجاج المناسب ولم يجد من يتصدى له، وجعل هذه السلطة تتمادى في خروقها للدستور. فارتكب وزراء في هذه الحكومة جريمة الخيانة العظمى بالتواطؤ مع العدو الإسرائيلي في حربه على لبنان، وهم يستندون في فظاعاتهم إلى أكثرية نيابية مغتصبة بقوة تعطيل المجلس الدستوري. لذلك وبعد أن فقدنا إمكانية طرح الثقة بالحكومة في المجلس النيابي، ولما كانت هذه الحكومة مستعجلة جداً في تمرير كل المشاريع الموجودة في الأجندة المعدة بدقة متناهية (وأهملوا مصالح الناس حتى إنهم لم يفكروا في إعداد موازنة الدولة التي هي صلب مهمات الحكومة، ويعتبر إهمال الحكومة لإعدادها خرقاً للدستور ــ وكان شغلهم الشاغل هو تمرير المشاريع السياسية الكبرى). لذا كان لا بد من توقيف هذه الحكومة فوراً لضمان المحافظة على هذا البلد قبل أن يصبح أسيراً لالتزامات خطيرة نعجز عن الخروج منها مستقبلاً. وبغياب المجلس النيابي لا يبقى سوى رئيس الجمهورية الذي يملك الوسيلة الدستورية التي تبيح له تخليص لبنان من هذه الحكومة.
3 ــ حالة الضرورة: من المسلّم به أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن القانون وضع لخدمة المجتمع، وإذا كنا أمام حالة إما التضحية بالقانون وإما التضحية بالمجتمع كان على القيمين أن يضحوا بالقانون ليحفظوا المجتمع، لأن القانون وجد لخدمة المجتمع فإذا كنا في حالة يؤدي فيها تطبيق القانون إلى الإضرار بالمجتمع وجب إهمال هذا القانون فوراً وإنقاذ المجتمع. ونظرية الضرورة مكرسة في فقه القانون الدستوري، تقابلها نظرية الظروف الاستثنائية في فقه القانون الإداري. ومجالها الحيوي هو الإطار الدستوري، فيما هي لا تحتاج إلى نص لتقريرها. فطالما وجد القيِّمون على الدولة أن الأزمة الحاصلة تهدد البلاد تهديداً جدياً، وطالما أن الانقسام اللبناني حول الحكومة هو انقسام خطير وينذر بضياع البلاد، وطالما أن الفريق الوزاري المسيطر على الحكم لا يرغب في معالجة الأزمة أو الاستجابة لمطالب الشعب، ما يدلُّ على نية غير سليمة لدى هذا الفريق لإكمال مخطط مرسوم مسبقاً ولا يهتم بأن تتعرض البلاد لأي أزمة خطيرة، على رغم أن مفهوم الحكومة هو حكومة مؤقتة وغير دائمة ولا يحق لها أن تتمسك بالسلطة إذا توافرت إشارة إلى إمكانية حصول ولو اضطراب بسيط سيرافق فترة ولايتها. لذا حالة الضرورة تتيح لرئيس الجمهورية أن يعتبر هذه الحكومة مستقيلة ويصدر مرسوماً يريح البلاد من أزمة لا يعرف أحد امتداداتها.
ثانياً: الاعتبارات الدستورية:
1 ــ لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك: إن تطبيق هذا النص الوارد في مقدمة الدستور يعني أن ينسحب مضمونه على كل النصوص الواردة في الدستور والمتعلقة بتنظيم السلطات بحيث يتوافر الانسجام بين المبادئ الواردة في مقدمة الدستور وكل النصوص الواردة في متن الدستور. فلا يجوز أبداً تطبيق أو تفسير أي نص وارد في الدستور بصورة مخالفة أو متعارضة مع المبادئ الواردة في المقدمة. وإذا طبّقنا هذا النص على السلطة التنفيذية، نقول بأنه إذا أصبحت هذه السلطة في وضع مناقض لميثاق العيش المشترك، فإنها تفقد شرعيتها، وإذا عدنا لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، نجد أن خروج وزراء طائفة كبيرة من الحكومة، لم يكن عملاً عابراً أو فجائياً، بل إن هذه الاستقالة جاءت لتعبِّر عن عدم رضى هؤلاء الوزراء عن مواقف الحكومة وتصرفاتها، فأصبحت هذه الحكومة بتصرفاتها في حالة مناقضة للعيش المشترك. فحالة عدم الشرعية، هي حالة مغايرة لحالة اعتبار الحكومة مستقيلة سنداً للمادة 69 من الدستور، ولا تعارض بين الحالتين، كما أن تطبيق أحد النصين لا يحول دون تطبيق النص الآخر ولا يتعارض أو يتناقض معه، فلكلٍ منهما مجاله الخاص. ولتأكيد وجهتنا نقول كحالة افتراضية، لو نالت الحكومة ثقة مجلس النواب ولكن برئيس حكومة من غير الطائفة السنية، لكانت حكومة دستورية من الناحية الشكلية المجردة، وأما إذا أدى هذا الأمر إلى التعارض مع مقتضيات العيش المشترك، فسيفقدها شرعيتها وستصبح حكومة غير شرعية وغير دستورية حتى لو لم تنطبق عليها إحدى حالات الاستقالة المحددة في المادة 69 من الدستور.
2 ــ إن حالات اعتبار الحكومة مستقيلة لا تقتصر على تلك المذكورة في المادة 69، ويمكننا أن نذكر ثلاث حالات يقتضي فيها أن تعتبر الحكومة مستقيلة على رغم أنها غير مدرجة في المادة 69: «الحالة الأولى هي حالة كف يد رئيس الحكومة وفقاً للمادة 70 من الدستور، فإذا لم يقدِّم رئيس الحكومة استقالته، فهل يعقل أن تستمر الحكومة مع أن رئيسها لا يستطيع ممارسة مهماته وقد تستغرق حالة كف اليد سنوات؟؟ والحالة الثانية هي حالة طرح الثقة بشخص رئيس الحكومة منفرداً وليس بالحكومة، فهل يمكن هذه الحكومة أن تستمر بعد إقالة رئيس الحكومة وهل يمكن تسمية رئيس حكومة جديد على رأس حكومة لا يعرفها؟ والحالة الثالثة هي حالة مرض رئيس الحكومة مرضاً شديداً يتعذر معه إكمال مهماته، المادة 69 لا تذكر هذه الحالة وإنما تذكر وفاة رئيس الحكومة، فهل يمكن استمرار الحكومة لأن نص المادة 69 لم يلحظ هذه الحالة؟ إن هذا التفسير هو غير منطقي وفيه تعطيل للدستور وتشويه لأحكامه، لذا لا يمكن تفسير الحالات الواردة في المادة 69 على أنها واردة على سبيل الحصر، ذلك أنه لا يوجد في الفقه القانوني نص يفسر على سبيل الحصر والتضييق إلا الاستثناءات الشاذة عن القاعدة شذوذاً فاضحاً وغير مقبول. إن المادة 69 من الدستور ليست من هذه الاستثناءات لأنها تتحدث عن حالة واجبة التوسيع لا التضييق.
3 ــ إن الدستور اللبناني بعد الطائف لم ينزع الصلاحيات من يد رئيس الجمهورية، فما زال له موقع خاص واختصاصات محفوظة لا يعود حتى لمجلس الوزراء أن ينتزعها منه، وهو الوحيد المؤتمن على الدستور والضامن لوحدة المؤسسات، ومن هذا الموقع وبسبب وصول الحكومة إلى حالة من حالات عدم الشرعية، وعلى فرض عدم وجود نص صريح يبيح اعتبار الحكومة مستقيلة، فليس ما يمنع رئيس الجمهورية من أن يخلق عرفاً دستورياً مكملاً لهذا النقص في النص، وحالة خلق الأعراف الدستورية ليست حالة مستجدة في لبنان ولا في دول أخرى من العالم، فهناك الكثير من التطبيقات الدستورية التي ترتكز على عرف دستوري ملزم من دون أن يتشكك أحد في مشروعيتها. لذا على فرض أنه ليس هناك نص يعالج حالة اعتبار الحكومة غير شرعية لمخالفتها ميثاق العيش المشترك، ولما كان إعمال النص خير من إهماله، ولما كان تطبيق هذا النص يوجب أن لا تستمر حكومة اعتبرت غير شرعية ما يوجب إقالتها، وعلى فرض أن هذا النص قد غفل عن تحديد آلية إقالة سلطة مخالفة للعيش المشترك، فإن من واجب رئيس الجمهورية أن يجتهد، وأن يخلق عرفاً دستورياً مقتبساً من نص المادة 53 معطوفة على الفقرة «ي» من مقدمة الدستور.
* خبير قانوني ودستوري