خليل أحمد خليل *
«الاعتقاد هو روح الوجود الاجتماعي،والتفويض هو المرشد القديم لكلّ سلطة».(مصطفى صفوان، الكلام أو الموت، ص60).

حديقة الصنائع

على مدى الحرب، لعبوا هناك بالرمل، بصقوا على العدو كلما قصف جنوبهم و«ضحيتهم». وأعلنوا أنهم أحرار. يلعبون الحياة كما يشاؤون، ولو استشهاداً برمل وطن هجروا منه، فيه، إليه. «نحنا أحرار نعمل مثل ما بدنا». لكن ليس بقذف الرمل في عيون بعضكم. قالت نور: «نحنا حرين. انت شو دخلك»؟ ظنت نور وأخواتها وصديقاتها إنني أو «إننا» نحن الصامتين مثلهم، تحت موت وطن، «آخرون» أي «أعداء». بالصمت افتدينا صخبهم المتفجر، الضجر من حرب ظالمة. هشام يخرج عن صمته: «ألم أقل لك إن هذه الطاقية الخضراء تحمينا من الصواريخ؟ من يستطيع الرد على أطفال في مهب حرب؟»، «صدّقتهم، بلا جدل، ما دمنا نحيا من وراء سد شهداء، جرحى، ودمارات... و... الضاحية كلها» يردد هشام. وتستمر اللعبة ضد الحرب. «نحنا لبنانيي...» «هودي شو بدهن منا؟» كان لبنان الآخر يرشح من عيونهم، حفاة، شبه عراة. قال لي طفل: «لقد سرقت شحاطتي!». من سرقها؟ لا يدري، كان يلعب حافياً، وحين حاول احتفاءها، لم يجدها. قلت لهشام، وله: «لا بأس. ستكبرون على هذا الرمل، وستفهمون من يحاول أن يسرق وطناً...». نور لم تسكت: «شو نحنا مش من لبنان؟ دخلك يا حاج، يا بوطاقية، وينو لبنان هيدا؟» استمرت اللعبة شهراً كاملاً، فيما المقاومون يجيبون عن سؤال ما قبل حرب 1975: «لماذا لبنان؟» ما حدث في حديقة الصنائع لم يكن فيلماً أو مسرحية. كان إيذاناً بولادة مجتمع آخر، كان مستحيلاً قبل الشهداء، وكانت دولته مستحيلة قبل التصدي للعدو الدائم بمقاومة دائمة. هناك من يتناسى أن خلف السلاح رجالاً، وأن في الرجال عقيدة، علماً، أرضاً، وأن في النفوس سيوفاً تحمل أهداف ثورة الحسين، بعدما آمنت بضمانة استشهاده، واستحسنت انتظاره في كل أرض. رجال تصالحوا مع أنفسهم، فمن يصلحهم مع من لا نفوس لهم خارج جيوبهم؟ لن تعيدهم كوندوليزا رايس إلى أرضهم المدمرة إلا بعد سنوات وبتأشيرة «اسرائيلية» عند جسور الليطاني. عادوا. ولم تعد رايس تتجاسر على وطء أرض الوطن المقاوم. فماذا أفادتهم عناقاتها وقبلاتها وغمزاتها؟

ساحتا الشهيد والشهداء

ليس مصادفة أن يذهب أهل الشهداء إلى ساحاتهم. رياض الصلح، الصيداوي، الاستقلالي، كان أول شهيد سياسي للبنان ــ على الرغم من خطأ إعدام الزعيم أنطون سعادة، أول داع لنهضة قومية وعلمانية ــ أي إنسانية ــ في لبنان والمشرق العربي. قبله، بحربين أولى وثانية، كان شهداء، أيار (مايو) يعلنون قبل الجواهري: «اتعلم ام انت لا تعلم* بأن دماء الضحايا فم؟». لم تتشكل أية محكمة «دولية» في عصبة الأمم لمحاكمة قتلة الشهداء وسعادة والصلح... ومئات الألوف من ضحايا حروب «إسرائيل» في لبنان. الحرب الأخيرة، لا تستحق إدانة دولية. كيف؟ سألتني نور وهي تجمع فراغ طفولتها وتعود مع أهلها جنوباً. صار النور يأتي من خارج المكان. صارت بيروت مجدداً ملتقى أنوار الوطن.
تساقطت التواريخ ما قبل الحرب: 8، 14... إلخ. عاد الرقم 12 إلى الذاكرة الجماعية. من أين جاء الشيعة بهذا الرقم؟ سألني صديقي البروفيسور حب الله، قيل من ترقيم السنة، وقيل من ترقيم الأسباط التلاميذ، و... ونقول: ليس للنفوس ترقيم خارجها. وخرجوا من موتهم، من موتنا. لبنان لا يموت. يعرفون ذلك بلا مواربة، نور سكنت في خيمة زرقاء. لماذا زرقاء؟ «دخلك يا أبو خيمة زرقا» سمعت أمها تبتهل، وهي تستذكر الميمون وداحي بوابة خيبر. منذ أيامهم الترابية، آمن العرب بـ«زرقة العدو» التي كانوا يدرأونها بعيني زرقاء اليمامة... وفي حرب الجزائر كان «زرق العيون...» وكانت خرزة «المقاومة» الزرقاء. ما يحدث في ساحتي الشهيد والشهداء تتمة لمقاومة مسلحة. ماتت سياسة أميركا وإسرائيل في المنطقة، بعد حرب 12 تموز. وفي غير مكان يبحثون عن «دينامية فشلهم»، فيما الجمهور، هنا، يواصل دينامية انتصاره. مقاومة عربية، اجتياحية؟ ربما. ساحة بيروت بوصلة. والسيد، كما يقول وليدي، مغناطيس هذه الأمة.

ما بعد السرايا

كلما تهاوى مغناطيس المال والسلاح، أمام مغناطيس السيد، صار للسياسة معنى آخر: تكون سيداً أو لا تكون. مع ذلك، ظل «حكي السرايا» غير «حكي القرايا». لماذا أيضاً؟ لأن الذين تعودوا على وضع لبنان في جيوبهم، وادعوا أن الناس «بطاطا» يعبئها من يملك أكياساً أو شوالات زرقاء اكثر، هم الذين يعجزون عن رؤية لبنان المحتشد في أكبر تظاهرة سياسية في تاريخ لبنان. والاختلاف ليس بسيطاً بين من يرى السلطة بعين الامتلاك، ومن يراها بعين الاشتراك والتفاعل.
في هذه السرايا، أعلن غورو، يوم 1/9/1920 ولادة دولة لبنان الكبير، منفوخاً بمنفاخ غروره الانتدابي. يومذاك لم يكن «عالسّور» أحد، سوى «العوجا»، أي السلطة الوصية. وكان بائع العوجا ينادي «من أصلك عوجا يا عوجا». يومها اعتقله عسكري سنغالي ــ إذ كل حروب 1918 ــ 1936 كانت حروب مرتزقة وعملاء من الجانب الفرنسي مقابل مقاومين أشداء، ما برح أحفاد أحفادهم يأتمرون بقرارهم السيادي المقاوم ــ وأخذه إلى المندوب السامي، الذي أمر بتركه، مؤنباً السنغالي: «إنه يقصد اللوز، لا السلطة»!
بلا عوج، تحتشد جماهير لبنان العربي المقاوم، أمام سرايا حكومة الغفلة، وتقصد هذه الحكومة العوجاء، لا اللوزة التي سألها كازتنزاكيس (تقرير إلى غريكو) عن الله، فأزهرت اللوزة! نعم في ساحة الشهيد والشهداء، أزهرت البيوت المدمرة والجراحات والعذابات، وفي الفم، جرت دماء الشهداء. وفي السرايا، لا نعرف ماذا يجري بالضبط. ما نظنه هو أن أشخاصاً (والشخص في اللاتينية (persona) أي قناع) يتبادلون أقنعتهم، يستقيلون من الحكومة بدون دراية، يستقيلون من السياسة الحية، مراهنين على سياسة أميركية ميتة... أو على انفجار «أنابيب غاز» الشوارع البيروتية. وبلا رهانات ذكية، يعادون شعباً، لأجل «محاكمة» دعا إليها فرانتز كافكا، وسألني عنها أحدهم، ذات يوم، فقلت له: «تريد أن تحاكم الحكام العرب، وأنت منهم؟؟ اذهب إلى الفيلم الأميركي الذي أخرج محاكمة كافكا، أو تابع «الجلسة السرية» لسارتر. قد تضحك نور وهشام من كلامي هذا. كل هذه الأسماء الغريبة لا تعني لهما شيئاً. هناك كلام أخير يفصل بين الموت والسياسة. ربما نسيت أن أقول لكم، ما نسيت أن أقوله لخالد حروب في لندن: «ظننت أن فلسطين هي على حدودنا، فإذا بفلسطين هي العالم!». هل نسيت أن أقول لكم ماذا بقي من لبنان، وأين هو؟ انتم لن تنسوا أن «لبنان هو أنتم» وأن لبنان السيد سيد.
هامش: عندما تتكلم الروح، ماذا يقول القناع؟
حاشية: من فوّض الروح لتقيم سلطانها؟
سلوا المجتمع.
* كاتب لبناني