قاسم عز الدين *
تعطلت الآلة المنتجة للتسويات الطائفية على السلطة أمام مطلب شديد التواضع بالمشاركة. لم يتوقف صوتها لحظة بل تقادم محركها وتخطى عمره بزمان فباتت المعارضة أمام خيار الإذعان لزحف السلطة ــ بدعم من الإخوة العرب وبعض «المجتمع الدولي»، ـــ على خيارات المعارضة او تصعيد الاحتجاج في الشارع وهو أمر يتضمن مخاطر الانزلاق الى «صراع العصبيات». تعذرت المساومة الطائفية وقد تجاوزت التناقضات والمتغيرات الاجتماعية والسياسية نظام الشراكة والمحاصصة وتقاسم الدولة والثروات العامة فبات الخلاف تناقضاً بين مقاربتين لسياسات الدولة الداخلية والخارجية ولخيارات السلطة في هذه السياسات. هو في عمقه تناقض بين سياسات تتبناها السلطة الى جانب إخوتها العرب في التبعية الكاملة لسياسات الدولة الصناعية المسيطرة على مجلس الامن الذي يسمّى تعسفاً «المجتمع الدولي»، وبين مقاومة هذه السياسات الجائرة كما يجري بشكل او بآخر في كل مجتمعات الكون. تتبنى السلطة وتنفذ ثقافة سياسية وبرنامجاً سياسياً معلناًَ ومضمراً في السياسة الخارجية والدفاعية وفي السياسة الاقتصادية الاجتماعية وشكل الحكم، هو نفسه الذي تتبناه السلطات النيوليبرالية في البلدان العربية و«العالم الثالث» وقد أفضى في كل مكان الى وضع يد الدول الصناعية على بقايا الدولة وعلى السياسات المحلية والثروات العامة، بينما تكتفي المعارضة بالرفض والمطالبة بالمشاركة آملة في ذلك إعاقة الزحف من غير ثقافة سياسية بديلة ومن غير برنامج سياسي بديل فتحصر نفسها في عصبية الشارع مقابل شارع تجيشه السلطة عصبياً لدعم خياراتها السياسية.
والحال، تجاوزت التناقضات الاجتماعية والسياسية امكان التوافق وحققت «خرقاً في بنية النظام الطائفي»، فالانقسام الحاد هو اليوم بين قوى طائفية وعلمانية ويموقراطية ودينية في كل جهة من اطراف السلطة والمعارضة على السواء، تماماً كما يجري في كل بلد تقريباً من بلدان العالم حول السياسات النيوليبرالية واستراتيجيات عودة الاستعمار الى بلدان «العالم الثالث».
وقد تحقق الخرق في بنية النظام الطائفي بفعل مآسي الحروب التي خضّبت الشعب اللبناني بمرارتها ولم تحطمه فأنتجت دينامية التمرد. وتحقق بفعل انخراط الشباب والشيوخ في حقل السياسة والرأي وفي حركة الانتقال والهجرة واكتساب المعارف والتفاعل مع شعوب العالم وهي تجربة شديدة القساوة والأسى لكنها شديدة الثراء المصرفي الطموح. تحقق كذلك بفعل نمو تيارات جمهورية سيادية نتيجة التحول الجذري في بنية المجتمع اللبناني بين الموطن وبلاد الهجرة والانتشار، لكن الخرق الأكبر والاهم تحقّق بفعل مقاومة شعبية وطنية طوال ربع قرن أفضت الى تحرير الارض والإرادة والى انتصار تاريخي على العدوان الاميركي ـــ الاسرائيلي. وقد بنت المقاومة في مسيرتها الطويلة كوادر وطاقات ملأت بتنظيماتها ومؤسساتها فراغ الدولة الخائبة ولم يعد من الممكن اعادة استيعابها في سلطة أدنى منها في الدفاع عن المصلحة العامة وأقل شأناً في حفظ الاستقلال السياسي. لكن التعبير السياسي عن الخرق لم يتحقق سواء في السلطة ام في القاعدة الاجتماعية بل إن غياب التعبير السياسي ألهب قريحة مجتهدي الإعلام وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا فأنتجوا ثقافة سياسية سقيمة في تأويل وتفسير الانقسامات العصبية من غير تحليل مسببات هذا الانقسام ومتغيراته في الزمن والمكان وفي علاقته بفراغ الدولة. والاعتراض هنا ليس على لحظ الانقسام العصبي في الشوارع، بل على ما يتضمن تأويله من أوهام متصورة عن تناقضات اجتماعية ـــ سياسية «صافية» تفضي الى الارتقاء والتغيير الامر الذي حال ويحول دون أداء وظيفة هؤلاء المجتهدين في انتاج ثقافة تغيير بل أفضى الى انحيازهم ضد التغيير الاجتماعي ــ السياسي.
ان التعبير السياسي عن التناقضات الاجتماعية ــ السياسية هو وظيفة القوى السياسية والفكرية والثقافية دون غيرها وفي هذه الحالة تتأثر الفئات الاجتماعية الشعبية برؤيتها وخطابها فتعيد صياغة دون ان تغير معتقداتها أو أياً من انتماءاتها المركبة التي يتقدم منها انتماء على آخر مرة ويتأخر مرة أخرى. وفي هذا الإطار تحتكر السلطة ونخبها الثقافية خطاباً سياسياً متجانساً منقولاً اليها وإلى غيرها من اغلب سلطات «العالم الثالث»، بفلسفة متكاملة وهو خطاب مترابط يشمل خيارات سياسية، وشكل الحكم وتعيد صياغته الأقلام المتمرسة. فشعار «أحب الحياة، بدنا نعيش» هو تلخيص مكثف لخيار نبذ العنف من الطرف اللبناني امام عنف اسرائيل، واستراتيجيات الدول الصناعية، تلخيص مكثف لخيار تسليم «المجتمع الدولي» ادارة السياسة الخارجية ووضع يده على الاستقلال السياسي، هو ايضاً تلخيص لخيار الوعود الكاذبة بالاستقرار والازدهار عبر بيع الدولة وشطب الحقوق السياسية والاجتماعية.
في المقابل تنأى المعارضة عن بلورة خطابها بشعار «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». هي تراهن على الاصلاح والتغيير من فوق دون تغيير من تحت بل إنها تحتقر السياسات الاجتماعية وتراها قليلة الشأن قياساً بالمطالب السياسية فتجتزئ التغيير الى حلقات متقطعة. لم تقتنع بأن البرنامج السياسي البديل هو بحد ذاته مشروع يعيد الفرز السياسي الاجتماعي ويغير موازين القوى وذلك على الرغم من وفرة الإمكانات والطاقات الدافعة للتغيير.
تحصر المعارضة حركتها في الشارع حيث تريدها السلطة ومن هم وراءها، محاصرة بالبحث عن مساومة تجاوزتها السلطة (ومن وراءها) فتبدو من خارج الشارع أداة انقلاب شمولي «لمحور الشر» بينما تملك طاقات وفيرة لنقل رؤيتها السياسية بالإصلاح والتغيير الى حيث القرار في عواصم «المجتمع الدولي»، فكل هذه العواصم تعيش مأزق سياساتها واستراتيجياتها، وشعوبها قلقة مضطربة. تملك طاقات وإمكانات وفيرة جداً لنقل رؤيتها الى العالمين العربي والإسلامي لكن كل ذلك يقتضي إنشاء فضاء اجتماعي ـــ سياسي من المجتمع المدني والقوى الاجتماعية التي تجد نفسها في التغيير من تحت. فالتحليل المنطقي لوقائع الأحداث اليومية يبرهن أن السلطة تجهل فوق جهل الجاهلينا وان موازين القوى الحالية لا تكفي لإرغامها على تغيير خياراتها السياسية ومن الخطأ ان تنظر المعارضة الى موازين القوى في لبنان وحده بل عليها أن ترى الصورة كاملة وهي صورة مشبّعة بالتناقضات يمكن ان تصب في طاحونة التغيير بدل طاحونة السلطة لكن ذلك مرهون برؤية سياسية بديلة وبرنامج سياسي بديل.
* كاتب لبناني