غسان العزي *
ليس الفساد ظاهرة حديثة الولادة أو تقتصر على مجموعة من البلدان المتخلّفة، بل وجدت منذ وجد التاريخ وشملت كل الدول والحضارات تقريباً. والتاريخ الإنساني تعاقب بين أمم وإمبراطوريات ارتقت سلالم المجد والحضارة قبل ان تسلك سبيل الانحطاط تحت ثقل جراثيم الفساد التي راحت تنخر عظامها حتى الموت والزوال.
أرسطو قال إن الفساد ليس الموت نفسه ولكنه، على الأقل، حركة نحو الموت. ولاحظ الفيلسوف الإغريقي الكبير حركتين متعارضتين، الواحدة هي الولادة فالنمو والثانية الانحلال فالموت. ثم ردد الفرنسي مونتسكيو الفكرة نفسها مطبقاً إياها على فساد الحكومات لفهم كيف ينحل النظام السياسي فتضيع الجمهورية أو تموت الملكية.
في «روح القوانين» يتكلم مونتسكيو على فساد الجمهورية ويكشف الرهان السياسي الكبير القابع وراء الفساد. وفي تحليله السلطة السياسية لا يكتفي بتصنيف الحكومات تبعاً للسؤال: من يحكم؟ فالوجه الأهم في نظريته السياسية يكمن في سؤال آخر: ما الذي يجعل هذه السلطة تعمل وتستمر في الحكم؟ أو تبعاً لأي شروط يبقى عمل هذه السلطة ممكناً؟ وفي رأيه لا يكمن الجواب في الشعب ولا في الزعيم ولكن في مفهوم يسمّيه بأربع عبارات مختلفة: القوة المحركة والحافز والروح والمبدأ.
يستمد الحكم الجمهوري قوته، على ما يرى مونتسكيو، من الفضيلة السياسية أي حب الوطن وقوانينه والاستعداد للتضحية بالذات من أجله. ووجود هذا الحكم رهن بوجود هذا المبدأ النبيل. ويقول ان الجمهورية فريدة، فالفساد فيها يعني فسادها، وفساد الجمهورية يعني زوالها. ويضيف أنه حتى عندما نفتقد الأخلاق والمثالية علينا أن نتصرف كمواطنين أو كرجال عقلانيين على الأقل تجنباً لانهيار المعبد على رؤوسنا.
أما مكيافيلي فكان ينظر الى فساد مجتمع ما كمعطى سياسي أساسي تبقى حياله القوانين والدساتير عاجزة في غالب الأحيان. وقد قدم لنا هذا التعريف الجميل: المجتمع الفاسد هو مجتمع أصبح فيه الناس عاجزين عن التمتع بحريتهم. أما السلطة فهي الشكل المحسوس الذي تتخذه الحرية لنفسها. والفساد يتعرض مباشرة للطريقة التي يثبت من خلالها أن المواطنين قادرون، أو غير قادرين، على ممارسة الحرية أي السلطة. وبما ان الفساد يقوم على التعارض سلطة/لاسلطة في هذا التبادل المريب حيث يشترى قرار السلطة ويباع فإننا نعي جيداً أن فساد المجتمع يبدأ عندما تتخذ السلطة قراراً ببيع قراراتها وتأجير نفوذها.
والفساد في النظم الاستبدادية لا يعني فساد الاستبداد لأن الفساد جزء من طبيعتها ويستمر باستمرارها. ويقول مونتسكيو إن الاستبداد شكل من أشكال الحكم التي تعيش من الفساد، وهي تفسد نفسها بنفسها في شكل دائم مستمر لكي تقوى على العيش والاستمرار. أما فساد الجمهورية فيعني موتها المحتم لأنه يدخل فيها تناقضات لا تقوى على تحملها. إذ لا توجد جمهورية من دون فضيلة. والفضيلة تحمل عند مونتسكيو معنى خاصاً فهي تعني الاقتناع بأن المواطن مستعد للتضحية بجزء من أنانيته في سبيل المصلحة العامة. والأنانية المفرطة هي الآفة الأولى التي لا تتفق مع الجمهورية التي ليست أساساً إلا توليفة لمجموع المصالح الخاصة المتفقة والمتآلفة في ما يسميه جان جاك روسو المصلحة العامة والسيادة العامة.
والقول إن الفساد يهدد الدولة ويضعها أمام خطر الموت ليس خطاباً نظرياً ولكنه يعني ان الفساد يقتل الفضيلة الضرورية لاستمرار الدولة. ومنذ اللحظة التي تسيطر فيها الأنانية ويتعاون فيها رجال السلطة السياسية والاقتصادية على خداع المواطنين وسلبهم فإن المواطنين يصبحون عاجزين عن الشعور بالانتماء السياسي ويشعرون بأن عليهم الدفاع عن مصالحهم الخاصة بأنفسهم ضد كل من يهددها.
وعلى غرار روسو فقد فرض مونتسكيو شروطاً لاستمرار الجمهورية يدور معظمها حول ظاهرة الفساد. ففي رأيه، عندما يصبح المال القيمة المهيمنة على المجتمع فإن الأنانية تزداد وتنشط. والمجتمع الذي تسيطر عليه الأنانية لن يقوى على الصمود كوحدة سياسية متماسكة لوقت طويل. وإذا اقتنع المواطنون بأن مؤسسات الدولة ليست سوى أمكنة تمر فيها عمليات السلب والخداع والالتفاف على القانون فإنهم يصبحون عاجزين عن التعلق بها كما يفرض مفهوم الدولة، ويصبحون أمام خيارين: إما المشاركة في هذا الفساد العام أو الانطواء على النفس. وفي الحالين فإن الانهيار سوف يحدث عاجلاً أو آجلاً. إذ ان غياب الشعور الصادق العميق بالانتماء إلى الوطن يفقده ركائزه الأساسية ومبررات وجوده فيصبح عرضة للذئاب تنهشه من كل حدب وصوب، من الخارج والداخل على حد سواء.
ويحذر مونتسكيو من القول ان «الإنسان فاسد بطبعه» وبأن «الأمور كانت دوماً كذلك». فهذه ليست سوى أفكار ملوثة بالفساد وهي من أكثر الأفكار خطراً على حياة الشعوب والمجتمعات والدول. فإذا كان صحيحاً أن من الصعوبة بمكان أن يتم القضاء النهائي على جرثومة الفساد، وخصوصاً السياسي ــ المالي منه، فالصحيح أيضاً ان محاربتها وتحييدها والحد من مفاعيلها أمر ممكن.
وتفسد الثقافة عندما تلتزم الصمت، ويصبح المثقفون شهود زور عندما يلزمون الصمت حيال الفساد والفاسدين. وكذلك الديموقراطية تفسد عندما تلزم الصمت. فهي ليست سوى مسار نقدي يعيش قلقاً مستمراً حيال طوباويته الخاصة التي تميزه. والديموقراطية لا ترضى أبداً بل تعيش حالة عدم اكتفاء مستمر وخصوصاً عندما تكون جمهورية.
جمهوريتنا اللبنانية ولدت وفيها جرثومة الفساد (ألم يكن عمر الزعني يغني غداة الاستقلال: «من القنطاري الى راس النبع دار الزلط ودار البلع»؟) التي راحت تنهش جسمها الضعيف أصلاً فتنمو ــ أي الجرثومة وليس الدولة ــ لتصيب كل القطاعات والمؤسسات والجماعات السياسية (كان الطلاب ينشدون في تظاهراتهم في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم: 16 لص (كان هذا الرقم يتغير تبعاً لتغير عدد أعضاء الحكومة من دون تغير إيقاع «النشيد» الطلابي) و99 حرامي. ويلاحظ الأجانب الذين يقيمون لبعض الوقت في لبنان ان شعبه شديد التسيّس ووسائل إعلامه تمارس حريتها في نشر أخبار الفساد والفاسدين بالأرقام والأدلة أحياناً من دون ان يتحرك هذا الشعب، عبر ممثليه أو أحزابه أو جمعياته مثلاً، لتحريض القضاء على هذا الفساد الذي بات يمارسه الجميع تقريباً، كل على مستواه وطريقته، وكأنه رياضة وطنية. ومن لا يمارس الفساد بنفسه يركن الى القناعة ان لبنان كان دوماً كذلك وان السياسيين فاسدون كالإنسان الفاسد بطبعه ولا حول ولا.
من هذا الشعب نفسه تنبثق حركات سياسية تعمل بدينامية لافتة لنصرة زعيم أو الدفاع عن مصالح ضيقة لكنها تغيب وتأفل عندما يرتبط الأمر بمصالح الوطن من حيث إنه، على الأقل، توليفة لمصالح كل من الأفراد الذين يتألف منهم.
والطائفية، نقيض المواطنة، نوع قاتل للدول من أنواع الفساد، وبدل مكافحتها والقضاء عليها، كما وعدت على الأقل حكومتا الاستقلال الأولى والثانية وكما طلب اتفاق الطائف، تجري تغذيتها بكل الوسائل والسبل حفاظاً على مصالح الذين وصلوا إلى السلطة ويستمرون فيها بفضلها. والنتيجة؟ لا دولة ولا مواطن ولا مواطنية بل فساداً ومفسدين وفاسدين.
لقد أطلق اغتيال الرئيس الشهيد الحريري، في شباط 2005، ديناميكية شعبية غير مسبوقة. تقريباً كل الشعب اللبناني نزل الى الشارع منقسماً بين تكتّلين سياسيين متنافسين أثبتا قدرة لافتة على استقطاب جماهير ملتهبة الحماسة. لم يرتفع، في أوساط الملايين المحتشدة هذه سواء في ساحة رياض الصلح أو ساحة الشهداء، شعار واحد يطالب بالقضاء على الطائفية والفساد أو بقانون انتخابي أكثر عدالة أو بإصلاح طال انتظاره للنظام السياسي العفن أو بتحقيق مطالب اجتماعية اقتصادية. هذا فيما كانت النقابات العمالية والتربوية وغيرها قد بيّنت، في غير مناسبة، قدرة جد متواضعة على استنفار بضع مئات من المطالبين بحقوقهم المهدورة. سقى الله زمن الستينيات والسبعينيات، كنا نتظاهر من أجل الرغيف والعلم وتعديل الأجور كما من أجل موقعنا في الصراع الإقليمي، ونجحنا في تحقيق بعض المطالب والإصلاحات. أما اليوم فقد بات بلدنا سفينة واقفة تتدافعها رياح الفساد (الذي قد يكون سياسياً أو مالياً و«استراتيجياً» أيضاً)، التي تهب من الخارج كما الداخل، نحو الفتنة والمزيد من المقولات الممجوجة نفسها.
الفساد حركة نحو الخلف، نحو موت الدولة على ما يرتئي أرسطو. لكن متى كان لدينا دولة حقاً حتى تموت؟ يقول قائل، فيرد عليه آخر: ألم يحن بعد أوان الشروع في استيلادها؟ أم اعتدنا العيش من دونها فأدمنّا على القناعة بأنه لا حاجة لنا إليها؟
* استاذ جامعي