وجيه قانصو *
عرَّف ماكس فيبر الدولة بأنها: «مشروع سياسي ذو طابع مؤسساتي، تُطالَبُ قيادتُه في تطبيقها الناجح للأنظمة، باحتكار الإكراه البدني المشروع». والاحتكار لا يعني أن الدولة مجرد شكل سلطوي منفصل بالكامل عن حركة المجتمع وقواه، ولا يعني أيضاً انتزاع كل مكونات القوة والفاعلية من المجتمع. بل الدولة وفق هذا التعريف، نقطة ارتكاز نهائية لأي نشاط سياسي، وثمرة عليا لأي مشروع مطلبي أو تغييري، والمصب النهائي لأية رؤية مجتمعية. فالدولة ليست مؤسسة مضافة إلى المجتمع، بل هي المجتمع نفسه منظورٌ إليه في أعلى مستويات تنظيمه لنفسه، إنَّها داخليته ومرجع هويته ومبرِّر وجوده.
وإذا اعتُرِفَ للدولة الحديثة باستقلالية مؤسساتها عن المجتمع، فهذا لا يعني تبعية المجتمع لها، بل يعني وجود حيّز واسع لحراك مجتمعي مستقل عن الدولة، وأشكال تضامنية تشرط حركة السلطة ويُعبّر عنها بالمجتمع المدني الذي هو عبارة عن ذلك الحيز العام الذي يقابل حيز الدولة، والذي تتشكل فيه منظومة الأجهزة والمؤسسات الاجتماعية ذات الطابع الطوعي والاختياري والتعاقدي والمستقل عن الدولة. هو بعبارة هيغل: «ذلك الحيِّز الذي يتصرَّف فيه البشر كأفراد أحرار لا كأعضاء مباشرين في العائلة أو منعكسين في الدَّولة».
مع وجود المجتمع المدني، يتجلى الفرق بين الحرية السياسية التي تقوم على المسؤولية والنشاط الفاعل، وبين حرية البدوي الشاعرية التي تقوم على المزاج والذاتية. ويظهر الفرق أيضاً بين المجتمع الطبيعي الذي يوفر الانتماء على أساس قرابة الدم، وبين المجتمع الذي يوفر الانتماء على أساس المواطنة التي هي عبارة عن المشاركة الفعالة داخل المجتمع السِّياسي.
والتَّمييز بين المجتمع المدني كمجالٍ عام والدَّولة كمجالٍ عام آخر، لا يعني أن العلاقة بينهما هي علاقةُ نفيٍ وانفصال، أو أنَّ المجتمعَ المدنـيّ هو نتيجة هدمِ أو تراجع الدَّولةِ أو زعزعتها، بل هو نتيجة تحديدِ العلاقةِ بين المجتمعِ والدَّولة، وهو كما يرى مونتسكيو وليد قوَّةِ الدَّولةِ الّتي توازنُ بِها قوتها وتحدِّد بها صلاحيتها. فالمجتمعُ المدني ليس اللادولة، وإنَّما هو شرطُ وجودِ الدَّولةِ مثلما أنَّ الدَّولةَ هي شرطُ وجوده أيضاً. فعلى رغم قيام المجتمع المدنـيِّ كوحدةٍ قائمة بذاتها، إلا أنَّه يكتسبُ عينيتهُ وملموسيتهُ من علاقته بالدَّولة والأوضاع السِّياسيّة ونظام الحكم.
وكما لا معنى لمجتمع مدني خارج السياسة، فلا معنى لسياسة ديموقراطية من دون مجتمع مدنيّ. فالمجتمع المدنيُّ هو شرط وجود الديموقراطية، لأن تطوره كان ببساطة تطوراً للديموقراطية نفسها، إذ كان يعني في مرحلة معيَّنة الحقوق المدنيّة (مرهلة توماس هوبز)، وفي مرحلة أخرى اعتبار المجتمع قائماً على تعاقد (مرحلة جون لوك)، وفي مرحلة ثالثة الانتخابات البرلمانية وتوسيعها وشموليتها (مرحلة مونتسكيو)، وفي مرحلة رابعة حقوق المواطن (مرحلة توكفيل)، ثم في مرحلة أخيرة المؤسسات المجتمعيّة بشكلها المعاصر (مرحلة تالكوت بارسونز) التي هي أيضاً آخر تجليات الديموقراطية.
لذلك مثَّلت فكرة المجتمع المدنيّ العمق المجتمعيّ للديموقراطية، فلا ديموقراطية إلا عندما تكون الفئات المجتمعية قادرة على تنظيم نفسها تنظيماً مستقلاً، ولا ديموقراطية إلا حين يتم الفصل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني لضمان الحقوق القانونية والسياسية لجميع مواطني البلد. ولا ديموقراطية أيضاً إلا عبر المواطنة التي توفرها مؤسسات المجتمع المدني أيضاً، حيث يتحمل الفرد من خلال هذه المؤسَّسات مسؤوليته السياسية، فيتجلى الفرق وعبر المجتمع المدني أيضاً، بين الوطنية المحملة بواجب الانتماء إلى دولة قومية، والمواطنية التي تمنح الحق في الاشتراك في تسيير شؤون المجتمع تسييراً مباشراً أو غير مباشر.
إذا كانت معضلة الديموقراطية في الغرب هي في وضع الضمانات الدستورية والمؤسساتية من أجل حماية الجماعات الخاصة القومية والدينية داخل المجتمع، فإن معضلة الديموقراطية في لبنان تبدو في البحث عن الضمانات التي تحمي الدولة من هيمنة الانتماءات والعصبيات الطائفية. وإذا عبّر أكثر مفكري السياسة عن مخاوفهم من النزعة الشعبوية القومية التي تتستر باسم عقلانية كونية تدمر جميع الانتماءات الاجتماعية والخصوصيات الثقافية، فإن أزمة الحياة في لبنان تكمن في غياب المجال العام الجامع، وفي ضعف الوعي بالدولة كشخص قانوني ومعنوي متميز من الأشخاص الطبيعيين الذين يمثلونه، أي الحكام ووكلائهم الإداريين، وفي فقدان الحد الأدنى من المعتقدات المشتركة والتمثّلات العامة التي تبني الثقافة الوطنية الجامعة المطلوبة لاستمرار المجتمع السياسي.
ربما كان غياب الدولة وإخفاقاتها المتتالية في تحقيق التوازن وتوفير الأمن، هو الدافع لتشكل قوى تضامنية وأحزاب سياسية في لبنان، تملأ فراغات الدولة وتعوض غيابها. إلا أن ذلك أدى في المقابل إلى تطور فكر اللادولة وإلى تأسيس نظام قيمي وعلائقي، أي منظومة اعتقادات، تنافس فكرة الدولة نفسها، فتحولت تلك القوى من موقع الوسيط بين المجتمع والدولة إلى موقع المزاحم لدورها وحقيقتها، وأصبح وجودها متعاكساً مع وجود الدولة إذ كانت هذه القوى تنشط حين تضعف الدولة.
غيابُ وتغييب الدولة كان السببَ المباشرَ في غياب وتغييب المجتمع المدني في لبنان، حيث كان البديل منهما أي الدولة والمجتمع المدني معاً، هو القوى السِّياسيَّة التي نشأت على هامش الدولة، والتي نسجت قواعد ولاءات ومبادئ تضامن من بنى العصبية الطائفية، وجهدت في تغذية كتل مجتمعية مغلقة خارج أطر الاندماج العام، وبالغت في تعزيز روابط سياسيَّة على هامش الدولة. فكانت تحيا بضعف الدولة، وتتغذى من هشاشتها ومن مساحات الفراغ السياسي والثقافي النَّاتج من تزعزعها.
مشكلة القوى السياسية في لبنان أنها أرادت أن تحفظ الخصوصيات الثقافية والدينية وتحمي الولاءات التقليدية من حرب الكل على الكل، إلا أنها في المقابل حوَّلت تعدُّد الأديان داخل المجتمع إلى حواجز خوف على الهوية وقلق على المصير والمستقبل، وإلى تباينات ثقافية المشترك الوحيد بينها هو الاستبعاد المتبادل.
هذا يفسِّر لنا الندرة في مؤسسات المجتمع المدني والكثرة في المنظمات الأهلية والدينية التي تتشكل وتنشط خارج المجال السياسي، والتي جاءت لتسكِّن أسئلة قلق الفرد وخوف الجماعات، بمزيد من الاغتراب عن الدَّولة ومزيد من الانفصال عن الآخر الشَّريك في الوطن، الأمر الذي أدَّى إلى المزيد من اغتراب الطائفة نفسها عن المجتمع الموحد، ليعيش أفراد كل طائفة بأمان خارج نطاق الدولة والمجتمع معاً، أي العيش حصراً بين الأهل والعشيرة والقرية والطائفة. وأدى أيضاً إلى تضخّم القوى الممثلة وتحوّل الدولة من مفهوم المشترك الجامع إلى مجموعة أشخاص تتمثل بمجموعة حكام، أي من مفهوم الكلي والشامل إلى مفهوم الشخص والفرد.
وهذا ما جعل الخصوصية الطائفية في لبنان مدخلاً إلى تقويض المجال العام، أي القضاء على المواطنة، ومدخلاً إلى القضاء على المجتمع المدني نفسه، لأنها حالت دون نشوء أية تضامنات طوعية وعابرة للطوائف، بل التبست التعددية بمؤسسات القرابة والطائفية والعرقية، وتحلل الانتماء العام الذي هو ركيزة الدولة والمجتمع المدني معاً، إلى انتماءات ذات تمركزين معياري وقيمي حادين، يحاصران خيارات الفرد ويلغيان مساحات الاشتراك مع الآخر المجاور، بل ويلغيان الاعتراف به.
من هنا، شروط تحقّق المجتمع المدني لا تقتصر على التحرر من سلطان الدولة المكثف، بل تتطلب، وبالدرجة نفسها، التحرر من الانتماءات الجمعية وروح الطائفية القمعية ووطأة التراث والتقاليد التي تهدد المجتمع كما الفرد بالانسحاق. فكما يكون تأكيد الذات بالانتماء إلى جماعات ثقافية، يكون بالدرجة نفسها تخلصاً وتحرراً منها.
التشارط الوجودي والكينوني المتبادل بين الدولة والمجتمع المدني، يكفل للمرء حق الاختيار كفرد وحق المشاركة كمواطن، ويضمن حيوية مجتمعية تتمثل في تضامنات طوعية جديدة. وهذا التشارط مشروط بوعي سابق بأن الأمم لا تشــــــــكلها العناصر الموضوعية للانتماء كالأصل واللغة والثقافة والدين، إنما هي حوادث مصطـــــــــنعة تشـــــــكلها الإرادة الحرة بالعيش المشترك.
* كاتب لبناني