خليل مغنية *
الخلل السلوكي أو «Le trou de comportement»، حالة ومرض نفسي معروف، انتقلت عدواه إلى الوسط السياسي اللبناني وتملّك بعض العاملين في نطاقه، مرخياً بثقله على صدورهم الى الحد الذي صمّ آذانهم وأغشى أبصارهم عن مواجهة الذات، وولّد لديهم الرغبة في قطع دابر أي رأي مخالف لسلطة وسلطان الزعامة ــ البكوية أو العائلية ــ وهيّأ لهم مراكز قوة لا يمتلكونها ولا تخولهم فرض الأمر الواقع كما يشتهون، وعند اصطدام أحدهم بواقع لا يلائمه أو يتعارض مع سيناريوهاته والتزاماته، تحفل ردة فعله بهجوم وحشي على الحواس، في خطب وتصريحات استفزاز بأعين مغلقة على الواقع، ومواجهات ظهور دونكيشوتية تصفع السامع والمشاهد، ولا يسعه سوى كره كل من يعجز عن كسبه لصفه، في طلاق سافر بين السلوك وموجبات الممارسة ومهماتها.
على الذين يتكلمون لغة الغرب ويقولون له ما يحب ان يسمع، ان يكونوا مسموعين في أوطانهم، وان يحصلوا على ثقة مواطنيهم ــ من غير المأجورين ــ الذين يشكلون أغلبية ربما كانت صامتة، ولكنها الأغلبية الضامنة للاستقرار، وأساس كل مجتمع وعناصر تماسكه، وبتفككها يزف البلد الى الفتنة، فالسلطة تعلو بالناس لا على رقابهم، ودماؤهم أثمن من ان تسفك على مذابح الرغبات والالتزامات، وما يستوجب الدم ثمناً له يستحق ان يكون أغلى وأسمى قيمة وهدفاً.
الكون لم يبدأ في شباط أو آذار ولا في شارعهما، ولكل عيوبه، ومنها ما يحجب الرؤية ويعمي عن الواقع نتيجة الطموح إلى نصيب في مساحة الضوء والحدث، وكل طائفية مدانة من دينها، فكل مواطن يشعر بأنه ينتهك ويعاني نتيجة خطايا الآخرين الذين سيطروا عليه لدرجة الاختناق، فبات في غيظ دائم، فهل يختبرون حدود صبره؟ فهم يتمتعون بمزايا السلطة وأدواتها من دون تقدير للمسؤوليات التي ترتبط بها، ويتفوقون على أنفسهم في عدم الاكتراث، فهم بحق موحّدو الأديان، فقد جعلوا الناس جميعاً يكفرون.
في رواية الغثيان لجان بول سارتر، ينظر البطل الى يديه ويتساءل عن معنى هذه اليد التي لا تمسك شيئاً ولا تصلح لأي شيء، في مقاربة تذكّرنا بتفوق النظام وقدرته العجيبة على تمييع ما يشاء من ملفات الهموم، لتتجلى عبقريته في عدم إنجاز شيء. اعذروا جهل ووطنية وحلم شعب نسي التعبير عن أفكاره وآرائه، ونسي الإيمان بنفسه، شعب فقد صوته وسمح لمن يتكلم نيابة عنه ويعبث بصوته بعدما اختنق بسكوته، جاعلاً من نفسه وليمة للآخرين وذخراً لرغباتهم، منجذباً نحو المآسي بخطى وئيدة، لعجزه عن تغيير التاريخ أو حتى إعادة صياغته، فباتت عناوينه في غيبوبة، يدور من حوله مصير وهدف لا علاقة له بهما، نتيجة الخلل في التوازن بين الوسائل والغايات، الذي يكشف ضعف القوة وإحساسها بالعجز، فالسياسة الخاضعة للانفعالات لا تثمر سوى الإخفاقات، أما الدموع والرومنسية فلا تدير أو تبني أوطاناً، وللتذكير فإنها لم تمنع قيام الثورة الفرنسية.
«آخر النفخ فرقعة»، كان الهمس أعلى درجات الثورة لدى الأغلبية، تشتم بواسطته زمانها وتترحّم على ما سبقه، فجاءت أزمة ــ الثقة أو اللاثقة ــ السياسية، وبلوغها نقطة اللاعودة بدعوة المعارضة مواطنيها إلى التظاهر والاعتصام، لتوافق هوى وحلم وأمل كل من يتشبّث الآن بإقامته الضاغطة في ساحات الاعتصام، علّها تفلح في إنتاج ما عجز عن تحقيقه على مدى انتمائه المبتلى به.
من يعش على أرض فعليه تنفّس هوائها، وكل سلطة محكومة بقوانين الوطن ومواثيقه الوفاقية، وعلى الجميع مواجهة عواقب قراراتهم وارتكاباتهم، درءاً لما تلوح بوادره بقوة من مخططات اغتيال الوطن ومستقبل بنيه، بعدما بات الوقت رفاهية لا نملكها، وبات الجميع محشورين في مصيدة ما أنجزوه من اصطفاف واحتقان وتوجس وتربص متبادل، أتاح لمصطادي الفرص القذرة ضخ سموم التقسيم من فدرالية وكونتونات وغيرها، وعليه فإن اجتراح حل جذري أصبح أكثر من ضروري، بل حتمياً، فأنصاف الحلول لم تعد تجدي، فهي أساس البلاء وعلة التشوّه الحاصل في بنية النظام الذي باتت أسسه عفنة بالإرث الفاسد الذي فاقم آفات الفاقة والمرض والبطالة والجهل، فالمنوال التسويفي والمداواة بالداء لا يمكن التعويل عليهما للخروج بعقار ناجع، وجل الممكن جراءهما لن يتعدى «لحس المبرد» بمصالحة أو صفقة «تبويس لحى»، مغلفة بمعالجة تجميلية لما فاحت بشاعته من إفرازات الممارسة والبناء عليها.
لقد خلق بسمارك ألمانيا الموحدة من ولاية واحدة، وفي لبنان ــ الأصغر مساحة من بعض ولايات ألمانيا ــ نجد من يجهد في تفتيته وتقسيمه أرضاً وشعباً.
عندما يجد أي نظام حاكم نفسه بمواجهة شعبه في أزمة لا تجدي معها وسائله السياسية أو وسائل القمع المعنوي من أبواقه ووسائل إعلامه، أو حتى وسائل القمع العسكري، فمعنى ذلك ان شرعية هذا النظام قد أُصيبت بشرخ كبير، وهو بالضبط مأزق فريق السلطة الحاكمة في لبنان.
ان علاج أي ظاهرة يتوقف على صحة تشخيصها، فما يحدث انفجار سياسي له دواعيه الاجتماعية والاقتصادية، وليس بمؤامرة أو محاولة انقلاب كما يحلو للسلطة ترويجه، انه رفض قاطع للأداء والممارسة ونتائجهما، وعليه فالحل إذاً سياسي واقتصادي واجتماعي، وما دام الشعب مصدر السلطات بحسب ما يخبرونه ويمنّنونه، وصاحب العلاقة في كل ما يحتكمون ويختصمون، فما الذي يمنع من الاحتكام المباشر له عبر الاتفاق على استفتائه في الأمور الخلافية والقرارات المفصلية، على نسق الانقسام الراهن الذي يحشر الوطن في عنق الزجاجة، كالحاصل والمعتمد في أعتى ديموقراطيات العالم، على ان يترافق ذلك مع إخراج متأن لقانون انتخابي عادل قادر على امتصاص سيئات النظام الأكثري وحسنات النسبية، وفق صيغة تراعي خصوصية الواقع اللبناني وتركيبته الفذة والفريدة، ما يمهّد الطريق لتصويب الممارسة الديموقراطية على أساس توفير الانسجام بين النظم الحاكمة، سلطة وقانوناً ومؤسسات، بتناغم مع مجتمع يستغني عن الاختبارات الدموية الدورية التي تفرض عليه منذ حقبات، بتسهيل من الواقع والممارسة والشذوذ الذي يعتريهما.
* كاتب لبناني