فاروق الساحلي *
يساق اللبنانيون يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة الى أزمة لا يمكنهم الخروج منها، وخاصة في ظل حكومة فاقدة للشرعية، وفي الوقت نفسه هي المسببة لتفاقم الصراع في مسائل وطنية، اختارت هذه الحكومة وبتوجيه من فريق الرابع عشر من آذار ان تكون رأس الحربة في التعبير عن خياراته السياسية اللاوطنية.
إذ في كل مرة تستجمع الأمة العربية قواها وتتجه نحو النهوض والانعتاق تجد في الداخل من يكبلها ويحبطها، لتعود الى نقطة الصفر أو تحتها وفي كل الحالات تضيع الأهداف ويصبح التقدم إما ممسوكاً وإما خارج السيطرة.
ولبنان، بما هو جزء من هذه الأمة وإحدى ساحاتها المتقدمة والمنتقاة لتنفيذ المشروع الاميركي الصهيوني في المنطقة العربية، تتجسد على أرضه وفي ساحاته المليئة بالحشود من كل الأطياف والطوائف من فقراء لبنان ومتوسطي الحال، من مجربين وحديثي التجربة، من عمال وموظفين وعاطلين عن العمل، من طلاب جامعات وثانويات، من مهنيين وحرفيين ومزارعين ومثقفين يجتمعون ويعتصمون وينامون في الخيم تحت «سفح» السرايا الحكومية المطلة على ساحتي الشهداء ورياض الصلح يجمعهم إحساس واحد ومشترك، هو انهم مهمشون من جانب السلطة الحاكمة ومن أكثرية نيابية يفترض ان تكون صالحة لتمثيل أكثرية الشعب اللبناني، ومنسجمة مع طموحاته ومصالحه. في هذه الأثناء تعود الى لبنان أجواء مبادرة عربية، حتى الآن «متشائلة» لكنها تعيد إليه والى ذاكرة اللبنانيين أجواء مبادرات عربية رافقت الحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت من عام 1975 وحتى اتفاق الطائف في أوائل التسعينيات. وإذا كان «الطائف» قد أرسى سلماً أهلياً في لبنان هو أقرب الى الاستراحة أو الهدنة، فإن ما تحمله المحاولة الجديدة، هو أقل مما هو مطلوب لحل أزمة عنوانها المركزي الانقسام الوطني حول الثوابت نفسها التي جاء بعضها في اتفاق الطائف، وأخرى غابت عنه.
إذ إن «المشاركة» عام 1975 كانت تعني رفع الظلم عن الطوائف الأخرى، والإفساح في المجال أمامها كي تأخذ دورها وحصصها وكان الوجود الفلسطيني عاملاً مساعداً لانفجار الوضع، تستقوي به أطراف ما سمي آنذاك الحركة الوطنية اللبنانية. بينما تأخذه الأطراف الأخرى أي ما سمي الفريق «الانعزالي» ذريعة لرفض المشاركة والاستئثار بالسلطة ولإدخال عوامل عربية ودولية في دائرة هذا الصراع وتلاوينه المتعددة من صراع أهلي بين اللبنانيين، الى صراع بين لبنانيين وفلسطينيين الى صراع طائفي وكل هذا تحت خيمة المصالح الدولية، سمحت في نهاية الأمر بوقف الحرب، من طريق معالجات سطحية ومبتورة، توقف الحرب فعلاً، لكنها لا تؤسس لبناء وطن دائم، بعدما أبقت على الألغام النائمة التي تُفجّر عند الحاجة. وتحت العنوان نفسه، أي المشاركة، بدأت الأزمة الراهنة، لكن مع اختلاف كبير في المضمون والأسباب. ولا بد من أن تأتي الحلول مختلفة تماماً عن سابقاتها.
فالطبقة السياسية الحاكمة، والمعارضة، استعملت كل «شطارتها» في السياسة والعلاقات في القبول والرفض وفي الصعود والهبوط، لتحافظ على امكانية دائمة في القدرة على التقاط اللحظة المناسبة، في استثمار أي حل ليكون حلاً لها ولمأزقها، ألم تكن الوثيقة الدستورية التي تبنّاها الحكم آنذاك، أكثر تقدماً وتقدمية من طروحات الحركة الوطنية وبرنامجها المرحلي. وفي الطائف أخذت هذه «الشطارة» كل الوقت لتثبت «براعتها» مع التوفير لها كل العوامل كي تنجح في التقاط الحل وتجييره لمصلحتها.
فبعدما كانت هذه الطبقة سبباً في الحرب وعلى هامشها حين تفاقمت خرجت المستفيد الأول من وقفها وخاصة بعد انتزاع قرار الحرب من الميليشيات وإعطائه الى المجتمعين في الطائف كي يعلنوا إيقافها. لكن ما يجري اليوم يختلف تماماً عما سبق أن جرى قبل الطائف لأن الحرب التي شنها العدو الصهيوني على لبنان ومقاومته في الثاني عشر من تموز الماضي، كان يراد لها أيضاً ان تغرق لبنان في تداعيات لا طاقة له على احتمالها، إلا بالخروج من دائرة العداء «لإسرائيل» والالتزام بسياسة جديدة تتجاوب مع المخطط الاميركي الصهيوني في المنطقة العربية وفي الشرق الأوسط أو ما سمي شرق أوسط جديداً، وكان لهذه السياسة دعاتها في لبنان ممن انخرطوا في التمهيد ثم التأييد للقرار 1559، أي قرار الحرب على لبنان والحرب في لبنان، أي إما عدوان صهيوني يفكك المقاومة إن لم يحطمها، وإما فتنة داخلية تحاصر المقاومة وتجبرها على الدخول في حروب أهلية، فتسقط شرعية وجودها وتفقد أسباب احتضانها من الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
في هذا السياق يمكن تفسير الدعم الذين تحظى به حكومة فريق «الأكثرية» وهو دعم لم يسبق لأية حكومة ان حصلت عليه، تشارك فيه قوى عربية ودولية فاعلة، كانت تنتظر نجاح «اسرائيل» في إلحاق الهزيمة بالمقاومة ليتشارك الجميع في رسم سياسة جديدة للبنان، خارج دائرة الصراع مع العدو الصهيوني، تنفذها حكومة فريق «الأكثرية» من دون أي عائق أو معارضة، وأصبح دور الأكثرية الحاكمة، مثل «الدعاة الى جهنم» تحت ستار الدعوة الى الحرية والسيادة والاستقلال.
هذا ما أعطى الانقسام الراهن طابعاً وطنياً لا يمكن الخروج منه من دون خسائر كبيرة حاولت المعارضة الحد منها بإهداء السلطة الحاكمة فرصة تاريخية في الإبقاء على إمساكها بالحكم مع مشاركة لقوى المعارضة تضمن عدم إيغال الحكومة في الانجرار وراء تنفيذ تعهدات والتزامات تهدد وحدة لبنان، وتقوّض ثوابته الوطنية.
وكم تبدو «الأكثرية» بعيدة من المنطق في مقاربتها أزمة لبنان الراهنة وفي إدارتها لها. فهي لم تدرك حتى الآن وعلى سبيل المثال ان مطلب المشاركة عشية الحرب الأهلية عام 1975 كان بسبب الضيق من استئثار طائفة ما بالحكم، وبحصصها الفائضة في الادارة والاقتصاد، بينما هو اليوم ضمانة يحتاج إليها اللبنانيون لتمنع عنهم هذه الهجمة الاميركية الصهيونية تحت مسميات الديموقراطية أو الدفاع عن حكومة، المخاطر الحقيقية حولها تأتي من داخلها إلا إذا كانت الديموقراطية نقيضاً للوطنية.
* كاتب لبناني