بولس خلف
كوسةلم يعد الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يتورّع عن القيام بأمر وبعكسه، وعن قول الشيء ونقيضه في آن معاً، من أجل الوصول إلى هدنة، والسيطرة الكاملة على دول المشرق العربي. لقد خلع قفازات الحرير، وأسقط الأقنعة، وتخلى عن السياسات المركبة والمعقدة، وأطاح كل التقاليد والأعراف الدبلوماسية وأضحى يفرض إرادته على شعوب المنطقة بوقاحة. فهو يبيح هنا ما يرفضه هناك، ويدفع الأمور، في تلك البلاد، في اتجاهات يعمد الى إغلاقها بكل ما أوتي به من قوة في دول أخرى.
في فلسطين مثلاً، تشجع الولايات المتحدة على قيام حكومة وحدة وطنية، لا من أجل توسيع قاعدة المشاركة في السلطة بل بهدف إضعاف حركة حماس وإخراجها من الحكم. كما تدفع واشنطن الى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة رغم أنه لم تمر سنة على الانتخابات الأخيرة التي جرت تحت إشراف مئات المراقبين الأوروبيين والأميركيين الذين أكدوا على نزاهتها وعلى تطابقها مع المعايير المعتمدة في الغرب. إلا أن نتائج الانتخابات أفرزت انتصاراً كبيراً لحركة حماس وجاءت، بالتالي، في غير مصلحة الخطط التي ترسمها الإدارة الأميركية للوضع الفلسطيني.
أما في لبنان، فتشجع أميركا المجموعة الحاكمة على رفض مطلب المعارضة بتأليف حكومة اتحاد وطني وتدفعها الى مقاومة كل الضغوط في هذا الاتجاه وإلى صم آذانها أمام صرخة مئات آلاف المتظاهرين الذين نزلوا الى الشارع، لا لإقصاء الخصم السياسي والجلوس مكانه بل لمشاركته في الحكم على قاعدة الثلث الضامن. وفيما لم تعد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة تمثل إلا فريقاً سياسياً معيناً بعد انحسار قاعدتها التمثيلية على أثر انسحاب وزراء إحدى الطوائف الكبرى، وهي كانت قد أبعدت في الأساس القوى المسيحية الأكثر تمثيلاً من صفوفها، تَواصل الدعم الأميركي لها، بل تزايد.
كما ان الإدارة الأميركية ترفض بقوة فكرة إجراء انتخابات نيابية مبكرة في لبنان لتكوين السلطة من جديد من خلال إعادة تشكيل المؤسسة الأم على أسس تكون أقرب الى الواقع الشعبي والسياسي. ويأتي هذا الرفض على الرغم من أن الانتخابات الأخيرة جرت على عجل، في ظروف غير طبيعية، وفي ظل قانون انتخاب غير عادل أفسد الإرادة الحقيقية للناخبين وأوصل الى الندوة النيابية أشخاصاً لا يمثلون دائماً خيار الناس. عدا عن أن العملية الانتخابية شابها العديد من العيوب إن لجهة إثارة العصبيات المذهبية أو لجهة استخدام المال للتأثير على خيارات الناخبين.
ولا تكتفي واشنطن باتخاذ الموقف ونقيضه، بل تعطي أيضاً تفسيرات غير منطقية لشرح أسباب خياراتها. بعد كلام محمود عباس عن ضرورة تنظيم انتخابات مبكرة، أملت الإدارة الأميركية أن يساهم هذا القرار في وضع حد لدورة العنف في الأراضي الفلسطينية. بينما في الواقع، أدى قرار رئيس سلطة الحكم الذاتي الى اندلاع موجة عنف غير مسبوقة وإلى اشتباكات مسلحة حوّلت شوارع قطاع غزة الى ساحة حرب حقيقية. وفي تعليقها على تحرك المعارضة في لبنان، رأت الإدارة الأميركية أنه يضرب الاستقرار، وقد وضعته في خانة «أعمال العنف»، بينما اتسمت التظاهرات المليونية بطابعها السلمي والحضاري، ولم تخرج أبداً عن إطار التعبير عن الرأي. أما أعمال الشغب والاعتداءات التي حصلت في بعض المناطق، فقد وقفت وراءها مجموعات وأحزاب مرتبطة بالمجموعة الحاكمة.
إن استخدام ازدواجية المعايير بهذه الطريقة الوقحة يدل على أن الولايات المتحدة لم تعد تشعر أنها بحاجة الى إخفاء نياتها الحقيقية وتغليف مواقفها بقشرة تخفف من وطأتها، فهي أعلنت صراحة عداءها للشعوب وانحيازها للنخب الحاكمة. إنها عودة الاستعمار المباشر بأبشع وجوهه.