حسين عطوي *
كان لتقرير بيكر ــ هاملتون وقع القنبلة في «إسرائيل»، ليس فقط من زاوية المفاجأة التي كانت منتظرة على صعيد دعوة الادارة الاميركية إلى إعادة النظر في سياساتها المتبعة في المنطقة، منذ أحداث 11 أيلول، بل أيضاً لما حمله التقرير من توجهات وخطوات أثارت المخاوف لدى المسؤولين الاسرائيليين والصحافة والمعلقين والخبراء من ان تدفع اسرائيل ثمن التوجه الاميركي الجديد.
فإسرائيل قد لا تكون خائفة الآن أو في المدى القريب من تغيير جوهري في سياسة ادارة جورج بوش، الذي طمأنها على هذا الصعيد، وإنما هي مرعوبة من تزايد الميل الاميركي العام في أوساط الجمهوريين والديموقراطيين والنخب عموماً (73% مع تغيير سياسات بوش في العراق) إلى ضرورة تغيير السياسات التي ارتكزت عليها الولايات المتحدة في المنطقة، في مرحلة ما بعد 11 أيلول، والتي جرب فيها المحافظون الجدد إيديولوجيتهم المتطرفة باستخدام القوة لإخضاع دول وشعوب المنطقة وتسيّد اسرائيل عليها وفق منطق الشرق الأوسط الجديد، لمصلحة اعتماد نهج يؤكد الانسحاب الاميركي من العراق عبر إدارة مفاوضات مباشرة مع جارات العراق، وخصوصاً سوريا وايران، والتشديد أيضاً من جديد على حل الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، وكل ذلك في إطار ما يصطلح على تسميته خريطة طريق لإنقاذ أميركا من المستنقع العراقي.
وهذا الخوف الاسرائيلي، الذي بلغ حد الرعب، مصدره الأساسي كما هو واضح يكمن في أن أحلام اسرائيل، كما أميركا، التي بنيت على مغامرة احتلال العراق، باعتباره الطريق الى شرق أوسط جديد تسيطر فيه أميركا على منابع النفط، وتعيد هيكلة المنطقة، وتنهي الصراع العربي الاسرائيلي لمصلحة اسرائيل، قد تبددت وانهارت لأنها قامت على برج من الورق سرعان ما تطاير مع ظهور علامات الإنهاك والتعب الاميركي في العراق الذي أغرق الجيش الاميركي في رماله المتحركة، وكأن العالم يشاهد فيلماً هوليوودياً أفاق منه فإذا هو وهم. فأميركا القوة العظمى ليست كلية الجبروت ولا يمكن مقاومة عراقية ان تسقط مشروعها الاستعماري، بل على العكس، ما نراه بأم العين مشاهد متجددة لما حصل في حرب فيتنام لكن في القرن الواحد والعشرين.
فإسرائيل التي كانت تنتظر قطف ثمار الاحتلال الاميركي للعراق، بخنق الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية والتخلّص من أعدائها في المنطقة سوريا وايران والمقاومة في لبنان، بات عليها اليوم بعد فشلها في ذلك، وفشل الاميركي في العراق، ان تدفع الثمن، لان اميركا تريد الخروج من الوحل العراقي، لكن هذا الخروج غير ممكن إلا عبر طريق واحد هو ايجاد خريطة طريق جديدة تقوم على اعتماد البراغماتية بديلاً من القوة، للتفاوض مع أعداء أميركا بدلاً من تهديدهم ومحاولة فرض الاستسلام عليهم، والإقرار بمصالحهم بدلاً من محاولة إلغائهم والقضاء عليهم، ومن ضمن ذلك ايجاد حل للصراع العربي الاسرائيلي باعتباره جزءاً من مجمل الصراع لا يمكن فصله عما يحصل في العراق، وبالتالي تقرير بيكر هاملتون يرسم طريقاً جديداً للحل الشامل لكل أزمات المنطقة التي تسببت بها السياستان الاميركية والاسرائيلية، ويرى ان هذه الحال هي الطريق المتاح أمام الادارة الاميركية للخروج من ورطتها، ومن أجل الحد من التداعيات الأشد خطورة على اميركا واسرائيل معاً. وبالطبع هذا ما أفزع المسؤولين الاسرائيليين الذين هالهم مجرد التفكير بتقليص أحلامهم التي اصطدمت بالواقع، ولذلك دق النفير الصهيوني في اسرائيل وواشنطن: إسرائيل ستكون أول المتضررين والخاسرين من تنفيذ توصيات التقرير، ولهذا يجب منع تحوله الى سياسة عامة تلتزمها الادارة الاميركية.
لكن العالمين بالسياسة يعرفون ان القضية أصبحت مرتبطة بمصير أميركا، وليس بمصير اسرائيل فقط، ولذلك دوائر القرار الاميركي لا تفكر في الأمر من زاوية اسرائيلية بحتة، بل هي مجبرة ومضطرة إلى التفكير من الزاوية الاميركية التي باتت الآن هي التي يجب ان تحدد السلوك الاسرائيلي، وعلى اسرائيل التي شعرت خلال السنوات الست الأخيرة بأنها هي سيدة البيت الأبيض في ظل سيطرة المحافظين الجدد من عتاة الصقور، ان تدرك ان بوش الابن لم يستطع حماية أكثر هؤلاء الصقور إخلاصاً له وهما (دونالد رامسفيلد وجون بولتون) فكيف له أن يبقي على السياسات التي أنتجت الفشل وأدت الى سقوط الحزب الجمهوري، حتى وإن حاول المناورة والظهور بمظهر الذي يعترض على تقرير بيكر ــ هاملتون، فإن هذا الاعتراض سيكون لفترة، لأن وقائع الحرب في العراق لن تمكّنه من مواصلة المناورة وتجاهل الضغط الاميركي الذي سوف يزداد تصاعداً من أجل تنفيذ توصيات التقرير، وخصوصاً بعد ان يصل الى نتيجة يقينية بأن كل الأسلحة الاحتياطية التي تستخدمها إدارته في المنطقة (من إثارة الفتنة، ومحاولة إشعال حروب أهلية، وتضييق الخناق على الدول المعارضة للسياسة الاميركية عبر فرض عقوبات وغيرها) لن تفلح في تحقيق ما عجزت عنه القوة الاميركية.
والى جانب ذلك، لن يكون الحزب الجمهوري عوناً لبوش إذا ما واصل عناده ورفض تغيير سياساته في العراق والمنطقة، لأنها ستؤدي الى مزيد من تدهور شعبية الجمهوريين الذين لا يستطيعون تحمّل ذلك وعليهم الاستعداد منذ الآن للانتخابات الرئاسية والتشريعية النصفية بعد أقل من سنتين، فإذا كانت سياسات المحافظين الجدد في عهد بوش الابن قد سببت خسارة الحزب الجمهوري السيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب، فإن الاستمرار فيها في ظل معارضة أغلبية الأميركيين لها وتراجع شعبية بوش الى أدنى مستوياتها (31%) ستقود الى فقدان الجمهوريين مزيداً من المواقع في المجلسين وخسارة انتخابات الرئاسة، الأمر الذي يعني إعطاء الديموقراطيين فرصة التسيّد على عرش البيت الأبيض فترة طويلة الى جانب السيطرة على الكونغرس.
* كاتب لبناني