توفيق المديني *
يبدو الوعي السياسي العربي محكوماً بعنصرين أساسيين هما:
أولاً ــ اللاشعور السياسي: يقول محمد عابد الجابري في هذا الموضوع «إذا كانت وظيفة» مفهوم «اللاشعور السياسي» كما أشار ريجيس دوبريه (في كتابه نقد العقل السياسي) هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، فإن وظيفته بالنسبة إلينا (العرب) ستكون بالعكس من ذلك: إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والسلوك العشائري داخل المجتمع العربي القديم منه والمعاصر. فاللاشعور السياسي المؤسس للعقل السياسي العربي يجب أن لا ينظر إليه فقط على أنه «الديني» و«العشائري» اللذان يوجّهان من خلف الفعل السياسي بل لا بد من النظر إليه أيضاً على أنه السياسي الذي يوجّه من خلف التمذهب الديني والتعصب القبلي.
ثانياً ــ المخيال الاجتماعي: الذي هو «جملة من التصورات والرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي الإيديولوجيا السياسية في فترة تاريخية ما، ولدى جماعة اجتماعية منظمة بنيتها اللاشعورية».
إن اللاشعور السياسي والمخيال الاجتماعي اللذين يربطان العقل السياسي بمحدوداته، يتغذيان من بنية إيديولوجية لا تزال مسيطرة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، من أبرز سماتها محاربة الفكر الحر، وطردها كلّ ما هو جديد. فالتاريخ العربي الإسلامي فيه ظواهر إيجابية، كانت تتخللها صراعات دموية عنيفة. فمقولة الفرقة الناجية هي تعبير مكثّف عن التقليد السياسي العربي الإسلامي، بصرف النظر عن القوى المتصارعة في المجتمع العربي.
وليس غريباً أن تظهر حركة التكفير والهجرة، وما يماثلها على الصعيد العربي، وهي صورة عن الحركات السياسية العربية، ولكنها مدفوعة إلى الحد الأقصى على مستوى التطرف. ويدل تشظّي المجال السياسي في معظم البلاد العربية دلالة قاطعة على أن اللاشعور السياسي الذي أنتجته عهود الاستبداد الطويلة لا يزال قائماً على مبدأ العشيرة والغنيمة والعقيدة، كما أشار إلى ذلك محمد عابد الجابري في كتابه المهم «العقل السياسي». هذا التشظّي السياسي عندنا، وهذه البنية السياسية الاستبدادية، مرتبطان بثلاثة عوامل أساسية:
أولاً: البنية الاجتماعية التقليدية، الناجمة من التأخر التاريخي للمجتمع العربي بوجه عام.
ثانياً: انهيار الفئات الوسطى التي تؤلف أكثرية الشعب، بسبب سياسة الخصخصة والاندماج في نظام العولمة الرأسمالية المتوحشة.
ثالثاً: طابع العلاقة بين المثقف والسلطة، ذلك أن المثقف هو كلمة السر لأي تقدم سياسي. غير أن المثقف العربي الذي هو في حال خنوع وتصالح مع الواقع الآن، في ما يتعلق بالسياسة والثقافة، لا يمكن أن يكون مفكراً نقدياً يقدم مشروعاً مجتمعياً بديلاً، يتخطى جدلياً، السائد من القيم والمفاهيم. ولذلك، فإن السياسة ــ بوصفها نفياً للحرب، والمعنى الذي تنعقد عليه وحدة المجتمع والدولة، ووحدة الحكم والشعب، ووحدة السلطة والمعارضة، والتعبير عما هو عام ومشترك بين جميع المواطنين ــ والفكر، والمنطق، والعقل، والمجتمع المدني، ودولة الحق والقانون، مقولات تتقدم معاً وتتراجع معاً، لأن مقولة السياسة ومقولة المنطق تنتميان إلى جوهر واحد، والى أصل واحد. وعلى الرغم من أن السياسة العربية المعاصرة استخدمت مفاهيم حديثة، إلا أنها ما زالت محكومة بالمحددات الآنفة الذكر.
إن السياسي الراديكالي في بلادنا المتأخرة تاريخياً، يجب أن تتوافر فيه ثلاث مواصفات متلازمة لا غنى عن إحداها: السياسي الراديكالي، والمحلل الاجتماعي، والمفكر العقلاني.
ونعتقد أن هذه الصفات لا تتوافر في الأحزاب المعارضة، ولا في الأحزاب الحاكمة، في العالم العربي. إننا بحاجة إلى سياسة تمارس بالمعنى اليوناني للكلمة، أي مجموعة من المسؤوليات، والحقوق، والواجبات، السياسة كفاعلية اجتماعية ومجتمعة، لا كفاعلية سلطوية ولا كفاعلية حزبية فقط، سياسة بوصفها مرآة المجتمع. إنها اعتراف بإفرادية الواقع ومعقوليته، وإنطواء كليته ووحدته الجدلية على التعدد والاختلاف والتعارض. وسياسة بما هي مشاركة إيجابية في الشأن العام، هي حق من حقوق الإنسان والمواطن. فلا مشروعية لأي حزب معارض ولا مشروعية للسلطة القائمة، أو لأي سلطة محتملة إلا بتوافر هذه المواصفات في السياسة، وتأسيسها.
بما تتحدد المعارضة؟ تتحدد المعارضة بالسلطة نفسها، وتحمل أهم خصائصها، وإلا لما جاز أن تكون سلطة بالقوة. ويؤكد لنا التاريخ السياسي الحديث في العالم العربي أمثلة عديدة على إنتاج السلطات الاستبدادية الحاكمة معارضات من نوعها، أو على صورتها وشاكلتها. ولكن بم تتحدد السلطة؟ لكي نفهم المعارضة يجب أن نفهم السلطة. إن فهمنا السلطة هو الذي يزيح اللثام عن وجه المعارضة القائمة في أي بلد عربي.
تتحدد السلطة السياسية سلباً وإيجاباً بثلاثة عناصر أساسية:
1 ــ بمستوى تقدم المجتمع أو تأخره، أي بمستوى نمو المجتمع المدني أو ضموره.
2 ــ وتتحدد بالنظام الدولي الجديد، ولا سيما في عصرنا، حيث لا سلطة خارج هذا النظام.
3 ــ وبنسبة القوى الاجتماعية السياسية.
هذه العناصر التي تحدد السلطة هي التي تحدد كذلك المعارضة، وبقدر ما تعي المعارضة هذه المحددات، ترتقي إلى مستوى معارضة حديثة وعقلانية، أي معارضة تضع برنامجها وتحدد مهماتها بدلالة المجتمع المدني ودولة الحق والقانون، وليس بدلالة السلطة فحسب.
وفضلاً عن ذلك فإن السلطة السياسية، بحصر المعنى، لا تستمد شرعيتها من أي مصدر أقوى وأهم من شرعية المعارضة. فليست السلطة والمعارضة تعبيرين متكاملين عن المجال السياسي المجتمعي فحسب، بل هما قطبان جدليان في وحدة تناقضية، يحمل كل منهما إمكانية أن يصير الآخر. فالمعارضة هي معارضة بالفعل وسلطة بالقوة. والسلطة هي سلطة بالفعل ومعارضة بالقوة. وجدلهما هذا هو جدل الكينونة الاجتماعية عينها، جدل تعارضاتها الملازمة، وقد اتخذت شكلاً سياسياً سلمياً مُتمدّناً أو متحضراً، لا يكاد يلحظ فيه العنصر الاجتماعي الطبقي المباشر.
كل معارضة لسلطتها الحاكمة تكره الدولة، فيما المعارضة العقلانية تضع في أساس تصوراتها أهمية الدولة، وضرورتها في الوقت عينه الذي تنتقد فيه السلطة القائمة، وتؤسس لعدم التماثل، أو التماهي مع الاستبداد. فالمعارضة العقلانية تعتبر أن قوة السلطة الحقيقية في المجالين الداخلي والخارجي، من قوة المعارضة، وضعفها من ضعفها وإضعافها، وهي تتناقض على طول الخط مع الوعي الزائف لدى السلطة العربية التي تعتقد أنها قوية بفضل قوة بطش القمع العارية التي لا يمكنها أن تصمد في أي مواجهة مع العدو الصهيوني والإمبريالية الأميركية، والتي في جميع الأحوال ليست سوى قوة وهمية. من هنا نقول إن ضعف المعارضة العربية هو في الوقت عينه قوة السلطة الأمنية الوهمية. إن العلاقة بين السلطة والمعارضة مفهومة فهماً جدلياً سليماً تقر بأن قوة المعارضة هي قوة السلطة الفعلية، وتتطلب وجود مجال سياسي مفتوح تتطابق حدوده مع حدود المجتمع المنفتح. وفي مثل هذا المجال السياسي المشترك الذي ينتجه المجتمع، والذي تتجابه وتتقاطع فيه تيارات واتجاهات وأحزاب سياسية مختلفة ومُتخالِفة، تتحقق الوحدة الجدلية بين السلطة والمعارضة على قاعدة التعدد والاختلاف والتعارض، ويتحقق في الوقت عينه الاستقرار السياسي، والتداول السلمي للسلطة، باعتبارهما من أهم المداخل السياسية إلى بناء ديموقراطية فعلية في العالم العربي.
غير أن الدولة العربية التي ربطت مصيرها بالرأسمالية المحلية والعولمة، وأنتجت أوضاعاً مخالفة للقوانين والأعراف والمعيارات السياسية الديموقراطية والأخلاقية، ودمرت المجال السياسي إلى درجة التشظي والتذرر، لا تعرف هذه الوحدة الجدلية بين السلطة والمعارضة، ولا تعترف بها، وتستهجنها الطبقة السياسية الحاكمة ومثقفوها أيضاً، علماً بأنها تفضي إلى الاستقرار الفعلي وإلى تداول السلطة السلمي.
* كاتب تونسي