أرنست خوري *
النجدة! في القرن الواحد والعشرين، هناك من يستحضر مفردات ومفاهيم ظننّا أنّها باتت في مختبر النقد وإعادة الصياغة. قد تكون ردّة الفعل هذه، أوّل تعبير تبادر الى ذهن مجموعة واسعة من العلمانيين واللامتديّنين بعد قراءة مقالة السيد إيلي نجم في «ساحة رأي» جريدة «الأخبار» في عددها الرقم 107.
تعتبر تلك المقالة «استفزازية» بامتياز لمواطن قارىء، يشعر بكامل حقّه في أن يكون علمانياً أو لامتديناً حتى. القارىء شعر ولا شك، بأنّ المقالة المذكورة تتوجّه من أولها الى نهايتها الى جمهور متديّن في وطن يريده الكاتب ساحةً لـ«ديموقراطية دينية» قد لا تتّسع بقعها للعلمانيين. هو استفزاز إيجابي على العموم، قدّمه الكاتب بصيغة «الأنا» ليعرض رأيه في تدخّل رجال الدين في المجال السياسي العام، وهو سلوك جريء من جانبه لأنه يحمل الصراحة الكافية ليقدّم «مقترحاته» و«حلوله» من خلفية لاهوتية ملتزمة دينياً. هي جرأة سنقابلها في هذه «المداخلة» بصراحة متبادلة من موقع لا يدّعي الحياد، بل من موقع يطمح ويعمل للعلمانية الشاملة ذات الحياد الايجابي تجاه الأديان، علمانية تستقي أسسها من تاريخ بلدنا وعالمنا العربي الغني جدّاً بحركات التنوير المسيحية والاسلامية معاً. باختصار هي علمانية مجتمعية تطال بشموليتها مختلف مستويات الحياة الاجتماعية والسياسية لتؤسّس لنظام سياسي نقيض لما يبشّر به السيد نجم، أي نقيض لديموقراطية لبنان التوافقية التي أسّس لها ميشال شيحا وشارل مالك، المستقاة من عقيدة سياسية تقول بأن «الديموقراطية في لبنان، ليست ديموقراطية مبنية على حرية الفرد، بل هي مبنية على المساواة السياسية بين الطوائف، على أن تكون الدولة مجرّد حكم في صراع الطوائف في ما بينها». وهو الوضع الذي يصفه د. جورج قرم بـ«دولة الحاجز» (Etat tampon) في محاضرة له بتاريخ 21-6-2006 في قصر الأونيسكو.
لقد قدّم الكاتب لمقالته بتساؤل عن سبب «طلب اللبنانيين من رجال الدين ما يطلبه سواهم من أهل السياسة»، عارضاً في النهاية إجابته هو عن السؤال. لقد فات الكاتب اقتراح الإجابة الأسهل «للسؤال الصعب». إنّ المواطن اللبناني يلجأ أساساً إلى رجل الدين، لأنه يدرك كيف يختصر المسافة للوصول الى مبتغاه. فرجل الدين والمؤسسات الدينية عموماً، تمسك المواطن من «المهد الى اللحد». أضف أنّ سلطات الطوائف ونفوذها وموازناتها وممتلكاتها أقوى وأكبر من تلك العائدة إلى مؤسسات الدولة اللبنانية.
أمّا إجابة الكاتب عن سؤاله فهي لأنّ «... الله أحق بالطاعة من الناس..» فهي تعيدنا بالذاكرة والتاريخ الى زمن كان فيه الناس، عندما يعجزون عن إيجاد الأجوبة لظواهر اجتماعية أو طبيعية أو علمية، كانوا ينسبونها الى الإرادة العلوية!
في الشكل، إنّ هذا الجواب يتناقض مع «أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله».
في المضمون، نلفت نظر الكاتب، إلى أنّ اللبنانيين هم مسلمون ومسيحيون، فإذا كان رجال الدين المسيحيون هم خلفاء بطرس الرسول على الأرض، أي ممثّلو الله على الأرض بشكل غير مباشر، فإنّ هذا الأمر لا ينطبق على «نظرائهم» المسلمين الذين لا يحملون صفة الوسيط بين الله والفرد.
بعد ذلك، يطرح الكاتب مسألة المفاضلة بين «طاعة الله وطاعة الانسان..»، إنّ هذا النوع من حصر الخيارات في أمور حسّاسة أمام العقول البشرية، ليس أسلوباً ديموقراطيّاً البتّة. إنّها ثنائيات تنتمي إلى معجم العصور الوسطى في مفاهيم مطلقة لا تقبل النقاش ولا النقد: الخير والشر، الجمال والقبح، السعادة والتعاسة.. وصولاً الى آخر أنواع الضديات: من تختار بين بوش وابن لادن؟
لماذا لا نترك الحرية أمام الناس ليحسموا قراراتهم بحرية من دون تخويفهم وإرعابهم من يوم الآخرة اذا ما أقدموا على طاعة الانسان السياسي بدل كلام الله أو رجال الدين؟
يعتبر الكاتب أنّ القيم التي تشملها الديموقراطية هي «دينية بامتياز». إنّ نسب كل ما هو نافع من مفاهيم حتى سياسية واجتماعية إلى جوهر الدين، لا يستوي وضعيّاً إلا إذا بقينا في المفاهيم العامة. يبدأ الخيط الأسود بالانفصال عن الخيط الأبيض، حين يطال النقاش التعريفات الدقيقة والممارسات التاريخية للمؤسسات الدينية، عندها تصبح الحرية الجنسية دعارة وفساداً أخلاقياً بالنسبة إلى الأديان وليست حرية، والعدالة بين الناس تصبح استنسابية بما أنّ العبودية لم تلغ بشكل نهائي في الإسلام.. أمّا في ما خص «الحقيقة»، فليست نسبيةً في الدين، هي مطلقة وشمولية.. ولكلّ دين «حقيقته»!
إنّ السؤال الذي أبقاه السيد نجم مفتوحاً حول الحق في إصدار أحكام التكفير، لا يحمل في طيّاته حتّى إدانةًً لأبشع حقبات سلطات الكنيسة قمعاً وإجراماً: هل ننسى مارسيل دو بادو، أحد أوائل المفكرين الذين نظّروا لفصل الشؤون الزمنية عن الأمور الدينية، والذي حُكم بالحرم الكنسي من البابا يوحنا 22 عام 1327 وهرب الى ألمانيا لأن الإعدام كان ينتظره في بلاده؟ أم نبرّر المصير نفسه الذي لاقاه غيوم دوكام عندما جرؤ على نقد مفهوم «العلّة الأولى» (فكرة الله المطلق لتفسير «وجود» الكون وكل ما فيه)؟
قمّة الغرابة ترد في النصف الثاني من مقالة السيد نجم، عندما يعتبر أنّ الأنظمة الغربية العلمانية الحالية، ليست بديموقراطية! يريد الكاتب استعمال كل الحجج للوصول الى خلاصته، وهي أنّ العلمانية والديموقراطية ليستا متلازمتين بالضرورة، وهو ما نوافقه عليه. إلا أن ما لا نتفق فيه معه، هو أن «الديموقراطية الدينية» هي الحل. في هذا السياق، يستشهد بفقرات من نص التوصيات النهائية للإرشاد الرسولي، حين يحذّر من استسلام البلد والمنطقة للـ«عصرنة»، وهو هنا لا يحترم التمييز العلمي بين العلمانية على الطريقة الفرنسية بمعنى Laïcité ومعناها باللغة الإنكليزية Secularization. هنا نورد الملاحظات التالية:
إنّ المجتمعات المعاصرة، باتت بأغلبيتها مختلطة دينيّاً، وبالتالي لا مجال لتطبيق «ديموقراطية دينية» فيها وذلك لسببين:
ـــ لأنّ من صفات الديموقراطية أن تكون كلّاً متكاملاً لا استثناءات فيه، فلا مجال لحرمان أي أقلية مهما كان عديدها متواضعاً من حقوقها الديموقراطية.
ــ ثمّ أنّه لو سلّمنا جدلاً بأنّ مواطني بلد معيّن ينتمون إلى دين واحد (كحال السعودية)، فإنّ الشروع في تطبيق ممارسات تتطابق حصراً مع تعاليم هذا الدين، يعدّ منعاً استباقيّاً لأي فرد في هذا المجتمع من أن يكون لامتديّناً أو ملحداً في قناعاته الفكرية، وعندها تصبح الآية القرآنية معكوسة: بدل «لا إكراه في الدين»، تصبح «الدين بالإكراه» أو «الإيمان بالإكراه».
أمّا عن موقف الكنيسة اللبنانية المحذّر من «ظاهرة العصرنة»، فهو ليس سوى رفض قاطع للعلمانية. واذا كان الكرسي الرسولي قد اضطر إلى الاعتراف بعد المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1963 بخسارته الكثير من سلطاته ونفوذه على يد الثورة الفرنسية وقيم الحداثة، فإنّ الكنائس اللبنانية ما زالت تتحسّس موقع قوتها، لذلك ترفض الدخول في تسويات تفقدها أجزاء من سلطاتها لحساب المجتمع المدني ومؤسسات الدولة الزمنية.
* كاتب لبناني